إعداد وتقديم: سعيد الباز
يرتبط الحلم بالإبداع الأدبي والفني ارتباطا قويا على مستوى صوره وخيالاته، تجعل منه مادة خصبة للإبداع واستلهام الأفكار. كثيرا ما تتحول إلى طاقة خلّاقة تمكّن الإبداع الأدبي والفني عموما من سبر أغوار الواقع والكشف عن أعماقه ومكنوناته الدفينة. إضافة إلى ذلك تمتلك الأحلام والرؤى، مستندة إلى واقعها وإبداعاتها المبتكرة، ما يمكن اعتباره تلك القوة المعبّرة لدى الإنسان عن الرغبة في التغيير والتقدم.
فاطمة المرنيسي.. نساء على أجنحة الحلم
… كانت عمّتي «حبيبة» مجبرة على الاحتفاظ بالطيور التي تحلم بها في أعماقها «إنّ الحلم أساسي بالنسبة للذين لا يتوفرون على السلطة» ذلك ما كانت تقوله لي أحيانا كثيرة وأنا أراقب الدرج حتّى تتمكّن من تطريز طائر أخضر على المرمة السرية التي كانت تخفيها في الزاوية المظلمة من غرفتها، الواقع أنّ الحلم وحده مجرّد من قدرة التحقق لا يغيّر العالم ولا يخترق الأسوار، ولكنّه يساعد الإنسان على الاحتفاظ بكرامته. الكرامة هي أن تحلم حلما قويا يمنحك رؤية وعالما يكون لك فيه مكان، وحيث تغيّر مشاركتك مهما كانت محدوديتها شيئا ما.
تكونين في حريم حين لا يحتاج العالم إليكِ.
تكونين في حريم حين تُهمل مساهمتك ولا أحد يطلب منك شيئا.
تكونين في حريم حين يغدو كلّ ما تقومين به غير ذي فائدة.
تكونين في حريم حين تدور الأرض وأنتِ غارقة في الاحتقار واللامبالاة.
شخص واحد يملك سلطة تغيير هذا الوضع وجعل الأرض تدور في النهر المعاكس، وهذا الشخص هو أنتِ.
إذا قاومت الاحتقار وحلمتِ بعالم مخالف تتغيّر وجهة الأرض.
ولكن ما عليك تجنيه بأيّ ثمن، هو أن يمتدّ هذا الاحتقار الذي يحيط بك إلى داخلك. لم يكن الشك يراود عمّتي حبيبة بهذا الشأن: «حين تعتقد المرأة بأنّها لا شيء تبكي الطيور الصغيرة، إذ من سيدافع عنها في السطح إذا لم يكن أحد يتصوّر عالما بدون مقالع لاقتناصها؟». كانت عمّتي حبيبة تقول بأنّ على الأمهات أن يحدثن أطفالهن عن أهمية الأحلام «لا يكفي أن ترفضي ساحة هذا الحريم، بل من اللازم أن تتصوري المروج التي ستضعينها مكانها» سألتُ عمّتي حبيبة، ماذا نفعل لكي نميّز من بين كلّ الأحلام التي تراودنا الحلم الذي يجب أن نركّز عليه، والذي يمكننا من التوفر على هذه الروية؟
أجابتني بغموض بأنّ على الأطفال أن يتحلّوا بالصبر، وأنّ الحلم ينبعث ويكبر داخلنا، وأننا سنستشعر بهجة تجعلنا ندرك بأنّه الكنز الحقيقي الذي سينبثق منه الضوء. نصحتني بألّا أقلق لأني أنتسب إلى سلالة من النساء معروفة بأحلامها القوية: «حلم جدّتك (الياسمين) هو اعتقادها بأنّها مخلوقة استثنائية. إنّها وهي القادمة من البادية لم تقبل قط بتفوق أصحاب مدينة فاس، ولا أحد استطاع أن يغيّر رأيها، لقد حوّلت جدّك بفضل قوة الحلم الذي قاسمها إيّاه. أمّك هي الأخرى ذات أجنحة داخلية، ووالدك يطير معها كلّما سنحت له الفرصة. ستكونين أنت الأخرى قادرة على تغيير العالم، أنا متأكدة من ذلك، ولو كنتُ مكانك ما قلقتُ».
انتهت تلك الظهيرة التي ابتدأت بشعور غريب هو مزيج من السحر والأحلام المجنحة، بإحساس أكثر متعة وغرابة. أحسستُ نفسي فجأة راضية مطمئنة كما لو أنني اخترقتُ عالما مجهولا ولكنّه آمن. لم أكتشف شيئا غير عادي، ولكنني أحسستُ بأنّي عثرتُ على شيء ما ذي أهمية، وعليّ أن أكتشف اسمه. كنتُ أعرف بأنّه يتعلّق بالحلم والواقع في نفس الآن، ولكنني لم أكن قادرة على تعريف ماهيته. سألتُ نفسي ما إذا كان هذا الإحساس بالاطمئنان نابعا من غروب الشمس، ذلك أنّ الأصائل في فاس سريعة إلى حدّ كنتُ معه أشكّ في أنني أحلم عندما يسود الظلام. كانت السحب الوردية التي تجتاز مربعنا السماوي البعيد تلك الأمسية بطيئة إلى حدّ أنّ النجوم بدأت تظهر قبل أن يسود الظلام.
ص 226/ 228
جبرا إبراهيم جبرا.. الفن والحلم والفعل
من الظاهر أنّ الخيال والحقيقة، الحلم والفعل، تستمدّ غذاءها من المصادر الغامضة نفسها فلعلّها ليست على طرفي نقيض كما يتصوّر المرء. إنّ الوشيجة التي تربط بين (سانشو بانزا) «العملي» و(دون كيخوتي) «الخيالي» تعتمد وحدة الأصل بينهما في العمق. ولا نُغالي حين نقول إنّ الحضارة هي من خلق أذهان فُطرت على تعاطي الأحلام الكبيرة، الخيالات والأوهام الكبيرة.
ولكن علينا، خدمة لغرضنا هنا، أن نسارع إلى الإشارة إلى أنّ قضية أن يكون المرء رجل أحلام أو رجل فعل، بحدّ ذاتها، لا تهمنا في هذا السياق بشكل خاص. فالإنسانية التي تبقى حيّة بفعل تراثها المتراكم، تجد أنّ الحلم والفعل يهمّانها حقا فقط عندما يمرّان من خلال كيمياء الفنّ. فأبو نواس، دون روائعه الشعرية، لن يكون إلّا سكيرا آخر، هؤلاء الأشخاص، لو لم يكن لهم فنّهم، لكانوا مجرّد قطرات في محيط شاسع. إلّا أنّهم، من خلال فنّهم، يبقون أعاجيب للأزمان كلّها. وهكذا فإنّ المتمردين والثوريين قد يملؤون كتبنا التاريخية، ولكن الذين منهم استطاعوا أن يزاوجوا بين فعلهم وبين نشوة ولوعة الكلمات والصور، هم الذين سيبقون موضوعا لفضول الإنسان المستمر، واقتدائه.
… إنّ الحلم هزيمة بقدر ما هو انتصار. فهو سقوط على العالم اللامتحرك في الداخل، ولكن له أن يكون أيضا امتدادا نحو اللا نهائي والمستحيل. قد يقتات الحلم على أحشاء المرء حتّى الانهاك، ولكنّه يستطيع أن يقذف بالذهن بعيدا في الما وراء. أن يحلم المرء حياته، أن يمثل المستحيل: ففي المنعطف التالي قد ينتظره واقع مليء بالمستحيل الذي يجعل أشدّ الأحلام هوجا ينضح بمعنى ما، بعقل ما. وما الفنانون الكبار في الأغلب إلّا أناس توغلوا في عالم الوهم والأخيلة، وعادوا ليرووا القصص عمّا رأوا. إنّهم أولئك الذين، كالسندباد، يضعون ثرواتهم تحت تصرّفنا. وهم يعلمون أنّ المزيد من رحلات الخطر في انتظارهم، ولا يستطيعون مقاومة النداء الذي يدعوهم إليها.
… إنّ للحلم قوة الأسطورة. وكثيرا ما يلعب الحلم دور تلك القوة الحدسية البدائية العصيّة على التفسير، والتي تشدّ الفعل عند قاعدته، ومن هنا اتصال الحلم الشديد بالفعل. بالنسبة للكثيرين، بالطبع، يكون الحلم نقيض الفعل، أو نفيا له، فيغيب عنهم التواشج الأعمق بينهما. بل قد نرى أحيانا هذا التواشج الأعمق، إن وُجد يُفصم عن عمد، خوفا من الواقع/ الحقيقة، إذا لم يكن خوفا من أشياء أخرى…
فكرتان تبرزان في النهاية العلائق الضمنية القائمة بين الفنّ، والحلم، والفعل: التوتر (بمعنى كثافة التجربة) والتغيير. والتوتر فردي، والتغيير جماعي، ولكنهما وجهان لعملة واحدة. لأنّ توتر التجربة الشخصية إنّما يتأتّى في معظمه عن طريق الآخر، عن طريق الجماعة، والتغيير في الجماعة إنّما يتأتّى عن طريق رؤيا الأفراد. وفي الحياة العربية، عندما رأى الشعراء رؤى جديدة، لم يتغيّر أسلوبهم، وبشكل جذري، فقط، بل إنّ المجتمع نفسه تغيّر، وبشكل جذري أيضا، وكل تحوّل في الرؤيا الفردية ينبثّ من خلال الفن وينعكس في تحوّل الرؤيا الجماعية في حلم الفنان، قد تكون المدينة الفاضلة بعيدة جدا، أو عند المنعطف القريب، ولكن إذا توقف الفنان عن الحلم، أو أجبر على التوقف عن الحلم، ضاع كل تصوّر للمدينة الفاضلة، وضاع المعنى في الكثير من فعل الإنسان.
إلياس خوري.. كأنّها نائمة
اعتمد الروائي اللبناني إلياس خوري، في روايته «كأنّها نائمة»، على توظيف منامات الشخصية الرئيسية (ميليا) بمنحها بعدا استشرافيا للأحداث على خلفية النكبة الفلسطينية كما يلقي الضوء على التعقيدات الدينية والاجتماعية في لبنان وفلسطين مرتكزا على صوت أنثوي محوري، أو ما عبّر عنه الكاتب: «هي المرة الأولى التي أحاول فيها الدخول إلى ما تحت جلد المرأة»:
انشقت أهداب (ميليا) عن عينين يغطيهما النعاس، فقرّرت أن تغمضهما من جديد وتتابع المنام. رأت شمعة صغيرة بيضاء يرتجف نورها الشاحب في الضباب. منصور يحمل الشمعة ويمشي أمام سيارة التاكسي، والهواء يضرب معطفه الطويل، لكنّها لم تستطع أن تتبيّن ملامح زوجها. مدّت يدها إلى كوب الماء الذي تضعه في العادة على الطاولة إلى جانب سريرها، فلم تجد الماء. أحست بالعطش، وتكسّر الجفاف على لسانها وفي سقف حلقها. سحبت ذراعها اليسرى الممدودة تحت رأسها فوق المخدة من أجل أن توقف التنمّل الذي امتدّ من أعلى الذراع إلى العنق. تقلّبت في الفراش. استلقت على ظهرها، مدّت يدها إلى كوب الماء فلم تجد الطاولة. انتفضت فوجدت نفسها جالسة، تراجع جذعها إلى الخلف، وأسندت رأسها إلى حافة السرير الخشبية. أين اختفى الحائط الأبيض الذي كانت تسند إليه رأسها، وتشعر بطلائه المقشّر يتفتت تحت شعرها الطويل ويتداخل به؟…
فتحت (ميليا) عينيها فلم ترَ سوى الظلام. قررت متابعة هذا المنام الغريب، وهي تشعر بشيء من الأمان على الرغم من خوفها. أخيرا عادت المنامات إلى ليلها. (ميليا) ترى نفسها في المنامات فتاة صغيرة، في السابعة، سمراء، ذات شعر أسود قصير ومجعّد، تركض بين الناس وترى كل شيء. وحين تنهض في الصباح، تروي ما تشاء، فينظر إليها الجميع بخوف وذهول لأنّ مناماتها تشبه النبوءات التي تتحقق دائما. أمّا هنا، في هذا السرير الغريب، ووسط العتمة التي تتراكم على عينيها، فقد حلمت نفسها امرأة في الرابعة والعشرين، تتمدد عارية على سرير ليس سريرها، وتضع رأسها على وسادة ليست وسادتها.
فتحت (ميليا) عينيها من أجل ترتيب المنام، قبل أن تعود إلى النوم من جديد، فلم ترَ سوى عينين مفتوحتين على الظلام.
فتحت عينيها فرأت عينيها، وخافت.
… (ميليا) تحبّ الليل وتركض في شوارعه الضيّقة. تستلقي على سريرها وتفتح عينيها، فيرتسم الليل من حول أجفانها. وعندما تكتمل العتمة تغمضهما وتذهب إلى مناماتها. وفي الصباح، لا تمسح المنامات عن عينيها، تتركها دوائر مرسومة بحبر ممحو كي تعود إليها حين تشاء. يكفي أن تغمض حتّى تمحي الأصوات وتندثر الأضواء، فتذهب إلى حيث ترى كلّ شيء، وتكشف الأسرار.
لم تخبر (ميليا) أحدا أنّها تخبّئ مناماتها في مكان عميق تحت العتمة. تحفر في العتمة وتضع مناماتها. تذهب إلى الحفرة حين تشاء، تُخرج ما تريد من مناماتها وتحلمها من جديد. هذا المنام يأتي من لا مكان. ففي حفرة المنامات لا وجود لهذه الميليا. ميليا الليل ليست ميليا النهار. من أين تأتي صور النهار؟ ألأنّها تزوجت؟ هل هذا هو الزواج؟
… ميليا وحدها في العتمة والبرد. قررت أن تفتح عينيها وتخرج من هذا المنام، فرأت وجها أبيض ذا جناحين أبيضين. مدت إليه يدها اليمنى، فالتصق الريش على أطراف أصابعها. صرخت طالبة منه أن يخلّصها، لكنّه لم يسمع صوتها، أرادت أن تقول إنّها تريد العودة إلى بيتها، وأنّها لم تعد تريد الزواج، لكنها لم تقل. الوجه ذو الجناحين يحلّق فوق السيارة وفوق الوادي وفوق الرجلين. يبتعد والريش يتساقط منه. ريش أبيض يشبه ندف الثلج الصغيرة التي تتساقط أمام ضوء السيارة الخافت.
إسماعيل كاداريه.. قصر الأحلام
نحن في «قصر الأحلام» للروائي الألباني إسماعيل كاداريه أمام رواية تذكّرنا بروايات تتناول فيها موضوع الأنظمة الشمولية مثل رواية «1984» لجورج أورويل أو «المحاكمة» لفرانز كافكا. تدور أحداث الرواية في زمن الإمبراطورية العثمانية. بطل الرواية مارك عليم، سليل عائلة كبيرة من كبار موظفي الدولة، تمكّن من تعيينه في مؤسسة مرعبة تسمى «قصر الأحلام». كان دور هذه الإدارة القوية في جمع أحلام جميع الرعايا في كل أنحاء الإمبراطورية وفرزها، والأهم من ذلك تفسيرها من أجل عزل المشاكل التي يمكن أن تحدث مستقبلا ومن شأنها أن تُعطّل سير الإمبراطورية وطاغيتها. أصالة هذه الرواية تكمن في انتقادها للأنظمة الشمولية والاستبدادية تحت غطاء استعارة سياسية وتاريخية تعود إلى العهد العثماني. في حقيقة الأمر كاداريه ينتقد النظام الشيوعي الألباني بصيغته الستالينية في شخص الزعيم أنور خوجا حيث كُتبت في بداية الثمانينات من القرن الماضي ولاقت انتشارا واسعا بعد ترجمتها، وزادت بالتالي المضايقات لإسماعيل كاداريه في بلاده. نقرأ من خلال فصول الرواية هذا المقطع الافتتاحي:
«منذ سنوات طويلة، لم يفتح مارك عليم هذا المجلّد الذي يضمّ تاريخ أسرته، وبينما كان يقلّب الصفحات كان يجد صعوبة في تركيز نظره على الأسطر المخطوطة التي كانت تتغيّر كتابتها من مكان إلى آخر، وتتغيّر اليد التي كانت قد خطّتها. ولم يكن من الصعب التكهن بأنّ غالبية هذه الأيدي، قد كانت أيدي عجائز أو على الأقل أيدي أناس في مغرب عمرهم، أو ممن هم على عتبة تعاسة كبيرة، حين تبرز الحاجة الملحّة إلى ترك بعض الشهادات وراءهم.
أوّل شخص كان قد تولّى منصبا هاما في الإمبراطورية من عائلتنا الكبيرة كان (ميث كوبريللي)، المولود قبل ثلاثمائة سنة في قرية صغيرة في ألبانيا الوسطى. تنهّد مارك عليم تنهيدة عميقة. كانت يده تستأنف تصفّح الكتاب الصغير القطع، لكن عينيه لم تكونا تتوقفان إلّا عند أسماء الوزراء والجنرالات: يا إلهي! كلّهم من أسرة (كوبريللي) يقول في نفسه وهو الذي كان بليدا بما فيه الكفاية، ليفرح، عند استيقاظه في الصباح، بتعيينه في وظيفته الجديدة. وفكّر في نفسه أنّه فعلا أبله، بل والأكثر بلاهة!
وعندما وقعت عيناه على كلمات «قصر الأحلام»، أدرك أنّه كان قد فتّش عنها وتجنّبها في الوقت نفسه، لكن الأوان كان قد فات أكثر مما ينبغي ليقلب الصفحة. إنّ علاقات أسرتنا مع «قصر الأحلام»، كانت دائما علاقات بالغة التعقيد. ففي البداية، أيام (سرايا يلدز)، التي لم تكن تهتمّ إلّا بقراءة النجوم، كان الأمر أكثر بساطة. ولم تبدأ الأمور بالتردي إلّا بعد ذلك، ومع تحوّل هذا الأخير إلى (طابير سرايا). وبعد أن بدّد هذا الجيش من الأسماء والألقاب قلقه قبل لحظات، عاد هذا القلق ليضغط على عنقه من جديد. ويعود إلى تصفّح السيرة، ولكن بسرعة، وفوضى، هذه المرّة وكأنّ ريحا عاصفة أخذت تهبّ من أطراف أصابعه».
من خيالات الحلم والمنام في الفكر والأدب
إعداد وتقديم: سعيد الباز
يرتبط الحلم بالإبداع الأدبي والفني ارتباطا قويا على مستوى صوره وخيالاته، تجعل منه مادة خصبة للإبداع واستلهام الأفكار. كثيرا ما تتحول إلى طاقة خلّاقة تمكّن الإبداع الأدبي والفني عموما من سبر أغوار الواقع والكشف عن أعماقه ومكنوناته الدفينة. إضافة إلى ذلك تمتلك الأحلام والرؤى، مستندة إلى واقعها وإبداعاتها المبتكرة، ما يمكن اعتباره تلك القوة المعبّرة لدى الإنسان عن الرغبة في التغيير والتقدم.
فاطمة المرنيسي.. نساء على أجنحة الحلم
… كانت عمّتي «حبيبة» مجبرة على الاحتفاظ بالطيور التي تحلم بها في أعماقها «إنّ الحلم أساسي بالنسبة للذين لا يتوفرون على السلطة» ذلك ما كانت تقوله لي أحيانا كثيرة وأنا أراقب الدرج حتّى تتمكّن من تطريز طائر أخضر على المرمة السرية التي كانت تخفيها في الزاوية المظلمة من غرفتها، الواقع أنّ الحلم وحده مجرّد من قدرة التحقق لا يغيّر العالم ولا يخترق الأسوار، ولكنّه يساعد الإنسان على الاحتفاظ بكرامته. الكرامة هي أن تحلم حلما قويا يمنحك رؤية وعالما يكون لك فيه مكان، وحيث تغيّر مشاركتك مهما كانت محدوديتها شيئا ما.
تكونين في حريم حين لا يحتاج العالم إليكِ.
تكونين في حريم حين تُهمل مساهمتك ولا أحد يطلب منك شيئا.
تكونين في حريم حين يغدو كلّ ما تقومين به غير ذي فائدة.
تكونين في حريم حين تدور الأرض وأنتِ غارقة في الاحتقار واللامبالاة.
شخص واحد يملك سلطة تغيير هذا الوضع وجعل الأرض تدور في النهر المعاكس، وهذا الشخص هو أنتِ.
إذا قاومت الاحتقار وحلمتِ بعالم مخالف تتغيّر وجهة الأرض.
ولكن ما عليك تجنيه بأيّ ثمن، هو أن يمتدّ هذا الاحتقار الذي يحيط بك إلى داخلك. لم يكن الشك يراود عمّتي حبيبة بهذا الشأن: «حين تعتقد المرأة بأنّها لا شيء تبكي الطيور الصغيرة، إذ من سيدافع عنها في السطح إذا لم يكن أحد يتصوّر عالما بدون مقالع لاقتناصها؟». كانت عمّتي حبيبة تقول بأنّ على الأمهات أن يحدثن أطفالهن عن أهمية الأحلام «لا يكفي أن ترفضي ساحة هذا الحريم، بل من اللازم أن تتصوري المروج التي ستضعينها مكانها» سألتُ عمّتي حبيبة، ماذا نفعل لكي نميّز من بين كلّ الأحلام التي تراودنا الحلم الذي يجب أن نركّز عليه، والذي يمكننا من التوفر على هذه الروية؟
أجابتني بغموض بأنّ على الأطفال أن يتحلّوا بالصبر، وأنّ الحلم ينبعث ويكبر داخلنا، وأننا سنستشعر بهجة تجعلنا ندرك بأنّه الكنز الحقيقي الذي سينبثق منه الضوء. نصحتني بألّا أقلق لأني أنتسب إلى سلالة من النساء معروفة بأحلامها القوية: «حلم جدّتك (الياسمين) هو اعتقادها بأنّها مخلوقة استثنائية. إنّها وهي القادمة من البادية لم تقبل قط بتفوق أصحاب مدينة فاس، ولا أحد استطاع أن يغيّر رأيها، لقد حوّلت جدّك بفضل قوة الحلم الذي قاسمها إيّاه. أمّك هي الأخرى ذات أجنحة داخلية، ووالدك يطير معها كلّما سنحت له الفرصة. ستكونين أنت الأخرى قادرة على تغيير العالم، أنا متأكدة من ذلك، ولو كنتُ مكانك ما قلقتُ».
انتهت تلك الظهيرة التي ابتدأت بشعور غريب هو مزيج من السحر والأحلام المجنحة، بإحساس أكثر متعة وغرابة. أحسستُ نفسي فجأة راضية مطمئنة كما لو أنني اخترقتُ عالما مجهولا ولكنّه آمن. لم أكتشف شيئا غير عادي، ولكنني أحسستُ بأنّي عثرتُ على شيء ما ذي أهمية، وعليّ أن أكتشف اسمه. كنتُ أعرف بأنّه يتعلّق بالحلم والواقع في نفس الآن، ولكنني لم أكن قادرة على تعريف ماهيته. سألتُ نفسي ما إذا كان هذا الإحساس بالاطمئنان نابعا من غروب الشمس، ذلك أنّ الأصائل في فاس سريعة إلى حدّ كنتُ معه أشكّ في أنني أحلم عندما يسود الظلام. كانت السحب الوردية التي تجتاز مربعنا السماوي البعيد تلك الأمسية بطيئة إلى حدّ أنّ النجوم بدأت تظهر قبل أن يسود الظلام.
ص 226/ 228
جبرا إبراهيم جبرا.. الفن والحلم والفعل
من الظاهر أنّ الخيال والحقيقة، الحلم والفعل، تستمدّ غذاءها من المصادر الغامضة نفسها فلعلّها ليست على طرفي نقيض كما يتصوّر المرء. إنّ الوشيجة التي تربط بين (سانشو بانزا) «العملي» و(دون كيخوتي) «الخيالي» تعتمد وحدة الأصل بينهما في العمق. ولا نُغالي حين نقول إنّ الحضارة هي من خلق أذهان فُطرت على تعاطي الأحلام الكبيرة، الخيالات والأوهام الكبيرة.
ولكن علينا، خدمة لغرضنا هنا، أن نسارع إلى الإشارة إلى أنّ قضية أن يكون المرء رجل أحلام أو رجل فعل، بحدّ ذاتها، لا تهمنا في هذا السياق بشكل خاص. فالإنسانية التي تبقى حيّة بفعل تراثها المتراكم، تجد أنّ الحلم والفعل يهمّانها حقا فقط عندما يمرّان من خلال كيمياء الفنّ. فأبو نواس، دون روائعه الشعرية، لن يكون إلّا سكيرا آخر، هؤلاء الأشخاص، لو لم يكن لهم فنّهم، لكانوا مجرّد قطرات في محيط شاسع. إلّا أنّهم، من خلال فنّهم، يبقون أعاجيب للأزمان كلّها. وهكذا فإنّ المتمردين والثوريين قد يملؤون كتبنا التاريخية، ولكن الذين منهم استطاعوا أن يزاوجوا بين فعلهم وبين نشوة ولوعة الكلمات والصور، هم الذين سيبقون موضوعا لفضول الإنسان المستمر، واقتدائه.
… إنّ الحلم هزيمة بقدر ما هو انتصار. فهو سقوط على العالم اللامتحرك في الداخل، ولكن له أن يكون أيضا امتدادا نحو اللا نهائي والمستحيل. قد يقتات الحلم على أحشاء المرء حتّى الانهاك، ولكنّه يستطيع أن يقذف بالذهن بعيدا في الما وراء. أن يحلم المرء حياته، أن يمثل المستحيل: ففي المنعطف التالي قد ينتظره واقع مليء بالمستحيل الذي يجعل أشدّ الأحلام هوجا ينضح بمعنى ما، بعقل ما. وما الفنانون الكبار في الأغلب إلّا أناس توغلوا في عالم الوهم والأخيلة، وعادوا ليرووا القصص عمّا رأوا. إنّهم أولئك الذين، كالسندباد، يضعون ثرواتهم تحت تصرّفنا. وهم يعلمون أنّ المزيد من رحلات الخطر في انتظارهم، ولا يستطيعون مقاومة النداء الذي يدعوهم إليها.
… إنّ للحلم قوة الأسطورة. وكثيرا ما يلعب الحلم دور تلك القوة الحدسية البدائية العصيّة على التفسير، والتي تشدّ الفعل عند قاعدته، ومن هنا اتصال الحلم الشديد بالفعل. بالنسبة للكثيرين، بالطبع، يكون الحلم نقيض الفعل، أو نفيا له، فيغيب عنهم التواشج الأعمق بينهما. بل قد نرى أحيانا هذا التواشج الأعمق، إن وُجد يُفصم عن عمد، خوفا من الواقع/ الحقيقة، إذا لم يكن خوفا من أشياء أخرى…
فكرتان تبرزان في النهاية العلائق الضمنية القائمة بين الفنّ، والحلم، والفعل: التوتر (بمعنى كثافة التجربة) والتغيير. والتوتر فردي، والتغيير جماعي، ولكنهما وجهان لعملة واحدة. لأنّ توتر التجربة الشخصية إنّما يتأتّى في معظمه عن طريق الآخر، عن طريق الجماعة، والتغيير في الجماعة إنّما يتأتّى عن طريق رؤيا الأفراد. وفي الحياة العربية، عندما رأى الشعراء رؤى جديدة، لم يتغيّر أسلوبهم، وبشكل جذري، فقط، بل إنّ المجتمع نفسه تغيّر، وبشكل جذري أيضا، وكل تحوّل في الرؤيا الفردية ينبثّ من خلال الفن وينعكس في تحوّل الرؤيا الجماعية في حلم الفنان، قد تكون المدينة الفاضلة بعيدة جدا، أو عند المنعطف القريب، ولكن إذا توقف الفنان عن الحلم، أو أجبر على التوقف عن الحلم، ضاع كل تصوّر للمدينة الفاضلة، وضاع المعنى في الكثير من فعل الإنسان.
إلياس خوري.. كأنّها نائمة
اعتمد الروائي اللبناني إلياس خوري، في روايته «كأنّها نائمة»، على توظيف منامات الشخصية الرئيسية (ميليا) بمنحها بعدا استشرافيا للأحداث على خلفية النكبة الفلسطينية كما يلقي الضوء على التعقيدات الدينية والاجتماعية في لبنان وفلسطين مرتكزا على صوت أنثوي محوري، أو ما عبّر عنه الكاتب: «هي المرة الأولى التي أحاول فيها الدخول إلى ما تحت جلد المرأة»:
انشقت أهداب (ميليا) عن عينين يغطيهما النعاس، فقرّرت أن تغمضهما من جديد وتتابع المنام. رأت شمعة صغيرة بيضاء يرتجف نورها الشاحب في الضباب. منصور يحمل الشمعة ويمشي أمام سيارة التاكسي، والهواء يضرب معطفه الطويل، لكنّها لم تستطع أن تتبيّن ملامح زوجها. مدّت يدها إلى كوب الماء الذي تضعه في العادة على الطاولة إلى جانب سريرها، فلم تجد الماء. أحست بالعطش، وتكسّر الجفاف على لسانها وفي سقف حلقها. سحبت ذراعها اليسرى الممدودة تحت رأسها فوق المخدة من أجل أن توقف التنمّل الذي امتدّ من أعلى الذراع إلى العنق. تقلّبت في الفراش. استلقت على ظهرها، مدّت يدها إلى كوب الماء فلم تجد الطاولة. انتفضت فوجدت نفسها جالسة، تراجع جذعها إلى الخلف، وأسندت رأسها إلى حافة السرير الخشبية. أين اختفى الحائط الأبيض الذي كانت تسند إليه رأسها، وتشعر بطلائه المقشّر يتفتت تحت شعرها الطويل ويتداخل به؟…
فتحت (ميليا) عينيها فلم ترَ سوى الظلام. قررت متابعة هذا المنام الغريب، وهي تشعر بشيء من الأمان على الرغم من خوفها. أخيرا عادت المنامات إلى ليلها. (ميليا) ترى نفسها في المنامات فتاة صغيرة، في السابعة، سمراء، ذات شعر أسود قصير ومجعّد، تركض بين الناس وترى كل شيء. وحين تنهض في الصباح، تروي ما تشاء، فينظر إليها الجميع بخوف وذهول لأنّ مناماتها تشبه النبوءات التي تتحقق دائما. أمّا هنا، في هذا السرير الغريب، ووسط العتمة التي تتراكم على عينيها، فقد حلمت نفسها امرأة في الرابعة والعشرين، تتمدد عارية على سرير ليس سريرها، وتضع رأسها على وسادة ليست وسادتها.
فتحت (ميليا) عينيها من أجل ترتيب المنام، قبل أن تعود إلى النوم من جديد، فلم ترَ سوى عينين مفتوحتين على الظلام.
فتحت عينيها فرأت عينيها، وخافت.
… (ميليا) تحبّ الليل وتركض في شوارعه الضيّقة. تستلقي على سريرها وتفتح عينيها، فيرتسم الليل من حول أجفانها. وعندما تكتمل العتمة تغمضهما وتذهب إلى مناماتها. وفي الصباح، لا تمسح المنامات عن عينيها، تتركها دوائر مرسومة بحبر ممحو كي تعود إليها حين تشاء. يكفي أن تغمض حتّى تمحي الأصوات وتندثر الأضواء، فتذهب إلى حيث ترى كلّ شيء، وتكشف الأسرار.
لم تخبر (ميليا) أحدا أنّها تخبّئ مناماتها في مكان عميق تحت العتمة. تحفر في العتمة وتضع مناماتها. تذهب إلى الحفرة حين تشاء، تُخرج ما تريد من مناماتها وتحلمها من جديد. هذا المنام يأتي من لا مكان. ففي حفرة المنامات لا وجود لهذه الميليا. ميليا الليل ليست ميليا النهار. من أين تأتي صور النهار؟ ألأنّها تزوجت؟ هل هذا هو الزواج؟
… ميليا وحدها في العتمة والبرد. قررت أن تفتح عينيها وتخرج من هذا المنام، فرأت وجها أبيض ذا جناحين أبيضين. مدت إليه يدها اليمنى، فالتصق الريش على أطراف أصابعها. صرخت طالبة منه أن يخلّصها، لكنّه لم يسمع صوتها، أرادت أن تقول إنّها تريد العودة إلى بيتها، وأنّها لم تعد تريد الزواج، لكنها لم تقل. الوجه ذو الجناحين يحلّق فوق السيارة وفوق الوادي وفوق الرجلين. يبتعد والريش يتساقط منه. ريش أبيض يشبه ندف الثلج الصغيرة التي تتساقط أمام ضوء السيارة الخافت.
إسماعيل كاداريه.. قصر الأحلام
نحن في «قصر الأحلام» للروائي الألباني إسماعيل كاداريه أمام رواية تذكّرنا بروايات تتناول فيها موضوع الأنظمة الشمولية مثل رواية «1984» لجورج أورويل أو «المحاكمة» لفرانز كافكا. تدور أحداث الرواية في زمن الإمبراطورية العثمانية. بطل الرواية مارك عليم، سليل عائلة كبيرة من كبار موظفي الدولة، تمكّن من تعيينه في مؤسسة مرعبة تسمى «قصر الأحلام». كان دور هذه الإدارة القوية في جمع أحلام جميع الرعايا في كل أنحاء الإمبراطورية وفرزها، والأهم من ذلك تفسيرها من أجل عزل المشاكل التي يمكن أن تحدث مستقبلا ومن شأنها أن تُعطّل سير الإمبراطورية وطاغيتها. أصالة هذه الرواية تكمن في انتقادها للأنظمة الشمولية والاستبدادية تحت غطاء استعارة سياسية وتاريخية تعود إلى العهد العثماني. في حقيقة الأمر كاداريه ينتقد النظام الشيوعي الألباني بصيغته الستالينية في شخص الزعيم أنور خوجا حيث كُتبت في بداية الثمانينات من القرن الماضي ولاقت انتشارا واسعا بعد ترجمتها، وزادت بالتالي المضايقات لإسماعيل كاداريه في بلاده. نقرأ من خلال فصول الرواية هذا المقطع الافتتاحي:
«منذ سنوات طويلة، لم يفتح مارك عليم هذا المجلّد الذي يضمّ تاريخ أسرته، وبينما كان يقلّب الصفحات كان يجد صعوبة في تركيز نظره على الأسطر المخطوطة التي كانت تتغيّر كتابتها من مكان إلى آخر، وتتغيّر اليد التي كانت قد خطّتها. ولم يكن من الصعب التكهن بأنّ غالبية هذه الأيدي، قد كانت أيدي عجائز أو على الأقل أيدي أناس في مغرب عمرهم، أو ممن هم على عتبة تعاسة كبيرة، حين تبرز الحاجة الملحّة إلى ترك بعض الشهادات وراءهم.
أوّل شخص كان قد تولّى منصبا هاما في الإمبراطورية من عائلتنا الكبيرة كان (ميث كوبريللي)، المولود قبل ثلاثمائة سنة في قرية صغيرة في ألبانيا الوسطى. تنهّد مارك عليم تنهيدة عميقة. كانت يده تستأنف تصفّح الكتاب الصغير القطع، لكن عينيه لم تكونا تتوقفان إلّا عند أسماء الوزراء والجنرالات: يا إلهي! كلّهم من أسرة (كوبريللي) يقول في نفسه وهو الذي كان بليدا بما فيه الكفاية، ليفرح، عند استيقاظه في الصباح، بتعيينه في وظيفته الجديدة. وفكّر في نفسه أنّه فعلا أبله، بل والأكثر بلاهة!
وعندما وقعت عيناه على كلمات «قصر الأحلام»، أدرك أنّه كان قد فتّش عنها وتجنّبها في الوقت نفسه، لكن الأوان كان قد فات أكثر مما ينبغي ليقلب الصفحة. إنّ علاقات أسرتنا مع «قصر الأحلام»، كانت دائما علاقات بالغة التعقيد. ففي البداية، أيام (سرايا يلدز)، التي لم تكن تهتمّ إلّا بقراءة النجوم، كان الأمر أكثر بساطة. ولم تبدأ الأمور بالتردي إلّا بعد ذلك، ومع تحوّل هذا الأخير إلى (طابير سرايا). وبعد أن بدّد هذا الجيش من الأسماء والألقاب قلقه قبل لحظات، عاد هذا القلق ليضغط على عنقه من جديد. ويعود إلى تصفّح السيرة، ولكن بسرعة، وفوضى، هذه المرّة وكأنّ ريحا عاصفة أخذت تهبّ من أطراف أصابعه».
نجيب محفوظ.. رأيتُ فيما يرى النائم
يورد نجيب محفوظ في «رأيت فيما يرى النائم» 17 حلما متخيلا يصور فيها مجموعة من الأحلام تغوص في أعماق النفس البشرية مصطبغة برؤية فلسفية، تمزج بين الواقع والخيال، حول موضوعات مرتبطة بالحياة والموت والوجود مضفيا عليها مشاعر إنسانية ودلالات رمزية عميقة:
الحلم رقم 1
رأيت فيما يرى النائم.
أنني راقد، أنني نائم أيضًا، ولكنَّ وَعْيي يُرامق الظلام المحيط… وثمة أنثى أقبلَت يندُّ عنها حفيفُ ثوب، والحجرة ما الحجرة؟ أهي حجرتي الراهنة أم أخرى آوَتْني فيما سلف من الزمان؟ ويتهادَى الوجه إلى حسيٍّ رغم الظلام باستدارته الناعمة وسمرته الصافية ورنوته الناعسة، نسقُ تسريحتها عصريٌّ… أما ثوبها فقديم يجرُّ ذيلًا مثل سحابة رشيقة، وهمس صوتٌ لم أرَ قائله: للزمن نَصْلٌ حادٌّ وحاشية رقيقة. وركعَت في استسلام وانهمكَت في عمل، ثبتَت عليها عيناي، ولكني لم أنبس بكلمة … وحَدسْتُ وراء انهماكها غايةً دانية، وقال الصوت: الأنفاس العطرة تصدر عن قلب طيب.
وانتظرتُ حتى جمعَت أدواتها ونهضَت في رشاقة، ومضَت نحو الخارج… شدَّتني بخيوط خفية لا تنقصف، فانزلقتُ من الفراش وتَبِعتُها، وهيمن عليَّ شعورٌ بأنني مدعوٌّ لأمر ما، وأنني لن أحيدَ عن التطلع إلى الأمام… تمضي متأوِّدة كأنها ترقص باعثة وراءها بنسائم من الذكريات، تعرف طريقها في الليل وأهتدي أنا بشبحها، ومررتُ بأشياء وأشياء ولكني أُنسيتها فتوارَت مثل شرَر متطاير. وعند موضعٍ عَبِق بشذا الحناء فصَلَ بيننا قطارٌ سريع طويل رجَّ الأرض ومَن عليها… وبذهاب ضجيجه استوى الليل أمامي وحده فضاعفت من سرعتي، وأطبق الليل وحده واختلجت فيه الوعود المضمَّخة بشذا الحناء… لم يَعُد في وسعي التراجع، وليس معي من الحوافز إلا الظمأ والشوق.
الحلم رقم 2
رأيت فيما يرى النائم.
حبة رمل ملقاة بين جذور أشجار في مكان لعله غابة، جذبَت انتباهي واستحوذَت عليه ببريقها، وبما أوحَته إليَّ من أنها تراني كما أراها… وقلقت في موضعها فلم أشكَّ في أنها مقبلة على مغامرة، وأثارَت حبَّ استطلاعي إلى أقصى حدٍّ، ومضَت تنتفخ رويدًا حتى آلَت إلى كرة مغطاة بزوائد مثل أوراق الورد، مرقوم على صفحاتها كلمات لم أتبيَّنها… ووثبَت كأنما قذفَتها قوةٌ في الفضاء مقدار أشبار، وتهاوَت مرتطمةً بالأرض مُحدِثة صوتًا قويًّا استرسل صداه فيما يُشبه النغم، وتمادَت في الانتفاخ حتى صارت في حجم قبة ضخمة ثم انطلق منها عمودٌ عملاق بسرعة مخيفة زلزلت لها الأشجار الفارعة حتى تلاطمت ذراها مع حشائش الأرض، وانبثقت من العمود فروع لا حصر لها غاصَت في الفضاء، وانبسطت أوراقها كالزواحف مثقلة بآلاف الكلمات المبهمة، وركبني الارتياعُ فعدوتُ بأقصى ما لديَّ من سرعة مبتعدًا عن مركزها المتفجر، عدوت منها، ولكني عدوت في مجالها وحضنها وقبضتها، فلا منفذ للهرب ولا صبر على التوقف أو الاستسلام… والفورة محدودة وسطح الأرض معاند والرياح على غير ما أشتهي، واستوى في شعوري البعدُ والقرب إزاء تلك الكينونة المتمادية في التعملق بلا نهاية. إن صوت نموها الهائل يدوِّي، وظلُّها يغشى الأشياء كالليل، وردَّة فعلِها تعبث بالكائنات، وأطراف قبضتها تنحدر فيما وراء الأفق، وتبيَّن لي أنني لست الوحيد في المأزق، وأن ملايين يلهثون من العدو، وأن السحب تركض أيضًا والرياح وأضواء النجوم، وارتفع صوت قائلًا: رفِّهوا عن أنفسكم بالغناء.
فتساءل صوت آخر: هل يطيب الغناء والمطرب يتخبط في القبضة؟
فقال الصوت الأول: رفِّهوا عن أنفسكم بالغناء!
وتحركت الحناجر تغنِّي كلٌّ على ليلاه، وتضاربَت الأصوات، فانقلبت عربدة تنضح بالوحشية والجمال.
الحلم رقم 7
رأيت فيما يرى النائم.
أنني في حديقة من أشجار الليمون، وأن الناس يزدحمون حول أشجارها ويتبارون في ملء مقاطفهم من ثمارها، وأن ثمة بيعًا وشراء ومساومات، وتنافسًا حاميًا يشتعل… وأن رجال الشرطة يتدخَّلون أحيانًا لفضِّ نزاعٍ بهِراواتهم فتسيل دماء، وكنت أتجول بين الجماعات بلا مقطف، حتى قال السمسار ساخرًا: رجل مجنون جاء السوق بلا مقطف!
والحق أن الشذا هو الذي دعاني لا السوق، فهِمْت على وجهي أتغزَّل برشاقة الأشجار وخضرتها الباسمة وأغصانها الثرية، وتخلَّق حبٌّ خالص في رعاية القبة الزرقاء. وفي لحظة مشرقة استحلت غصنًا، فأفلتُّ من مطاردة السمسار، ومضى الزمن وأنا أتأوَّد على دفقات النسيم، وأنهل من حرية عبقة بشذا الليمون.
الحلم رقم 11
رأيت فيما يرى النائم.
أنني حزين وقلبي ثقيل، ولكنني لا أعرف سببًا معينًا لحالي… وسِرتُ في طريق مجهول حتى أرهقني السيرُ، وشعرت طوال الوقت بأنني أسعى وراء غاية، لكنها غابَت عن وَعْيي أو غاب عنها وعيي. وتبرق لحظة خاطفة في غياهب نفسي مغررة بي، فأتوهَّم إنني مستكشفها، ولكنها سرعان ما تغوص في الظلام مخلِّفة يأسًا… ودومًا لا أكفُّ عن التطلع والانخداع واليأس، ولا أكفُّ عن السير، وصحبني الحزن مع خطاي، وانثالَت عليَّ صورٌ متلاحقة سريعة هامسة بذكريات الهناء الراحل والأحبة الذاهبين. وأذهلَتني كثرتُها كما أذهلني عدمها، وقعقع الرعد حتى ارتعشَت أطرافي، ولكنه قال بصوت واضح: سوف تنقشع الأحزان وينهمر المطر.
مقتطفات
الجهل الجديد ومشكلة الثقافة
يتساءل كتاب «الجهل الجديد ومشكلة الثقافة» لمؤلفه توما دوكونانك Thomas De Koninek الفيلسوف والأستاذ في جامعة لافال في الكيبيك في ظهر غلاف كتابه: «هل للفلسفة ما تقوله في العالم المعاصر؟ وهل بإمكانها التدخل في النقاشات العامة لتساهم في توضيح رهاناتها وتساعد بشكل أفضل في تحديد شرط جواب ما؟ مبيّنا إمكانية الإجابة عن هاتين المسألتين معا، ذلك أن لا فلسفة بدون ممارسة العقل، وأنّ العقل الفلسفي، عدا استعماليه الموضوعي والعملي، له أيضاً وظيفة النقد العام. وهذا المفعول العام للفلسفة هو الذي يقتضي الرجوع إليه عن طريق نشر النصوص التي تتخذ موقفا من المسائل الحالية والراهنة. مؤكدا صواب القول بأنّ «الاكتساب الخارق للمعرفة ثمنه اكتساب الكبير من الجهل». وأسوأ من ذلك، في صميم آفات مجتمعاتنا الأكثر خطورة، كالعنف والفقر والتدمير الذاتي للشبان، يتكشّف جهل جديد. وأنماط الفكر الخاصة بكل علم أو قطاع معرفة ليست جديدة للإجابة عن مسائل الخبرة الملموسة والمعقدة. فالفلسفة لا غنى عنها مطلقا أكثر من وقت مضى، وهي مدعوة إلى أن تنتقد بلا كلل التحولات المنهجية والتجريديات لكي تقود الكائن البشري مجدداً، وبصورة خاصة، إلى معنى الكائن الملموس أكثر من غيره والأكثر تعقيدا في هذا العالم. والثقافة تحدد، قبل أي شيء تطور المجتمعات، قبل أنماط الإنتاج أو الأنظمة السياسية، ألا نرى إلى أي درجة تعيد سلطات الاتصال الجديدة بنية العمل السياسي وعالم الاقتصاد والعلم؟ فالثقافة إذن هي التي يجب في أول الأمر تفحصها والنظر ملياً إلى معناها مجدداً؟ وليس هناك ما هو أكثر عجلة وأكثر حيوية».
يبحث المؤلف، وفق هذا الإطار، في موضوع الجهل الجديد الذي يرى أنه من الأشكال المستحدثة الرهيبة للغاية التي يرتديها اليوم، وهو التدمير الذاتي العالمي الثقافة، لذا حاول تحديد ذلك، وإبراز أمراضه التي تجمعها سمة مشتركة هي تدمير الثقافة وبالتالي الإنسان. كما يؤكد أنّ على الرغم من أننا نعيش عصر المعلوماتية والذكاء الاصطناعي ومجتمع المعرفة، إلا أن البشرية تعيش نوعا جديدا من أنواع الجهل، والجهل المزدوج أو الجهل المركب، الذي جعل البشرية تحقق منجزات في فهم الكثير من أسرار الكون، إلا أنها ازدادت جهلا بالإنسان نفسه، وازداد جهل الإنسان بنفسه، وظهرت هذه الأنواع الجديدة من الجهل، ومن هذه الفرضية ينطلق الكتاب لرصد مشكلة الثقافة في سياق الجهل الجديد.
في البداية يقدّم المؤلف تمييزا أساسيا بخصوص الجهل: «هناك في الحقيقة شكلان للجهل يمكن وصفهما (بالجديدين) وإنّما هما متناقضان كليا. الشكل الأول يفتح الطريق ويحررها، والثاني يسجن ويقتل، ويترجم الأول الذي يجب إشهاره باستفهامات جديدة تثيرها اكتشافات جديدة. إنّه محرّك مقدّمات المعرفة جميعا. ويحيا الثاني، على العكس، في الوهم أنّنا نفهم في حين أننا لا نفهم وينتمي إلى ما سماه أفلاطون «الجهل المزدوج». وقد عاد اليوم، وقد شهّر به سقراط في ذلك الوقت وحاربه في شكله الأوّلي بقوة، على غرار هذه الأمراض القديمة المعدية التي توصلت الجراثيم إلى التكيف معها ومقاومة العلاجات الأقوى والتي تتحقق اليوم «من عودتها الكبرى» وهذا الشكل الأخير هو موضوعنا ونسميه، على سبيل الاختصار، الجهل الجديد. إلّا أنّه إذا كان له طابع الانبعاث، فماذا يمثل من جديد بحصر المعنى؟
وقد سبق أن تعرفنا في الجهل المزدوج الأخطر والأكثر استيطانا من بين أنواع الجهل، والأكثر مقاومة بشراسة… ذلك «بأنّك لا تجهل الأشياء الأهم» وحسب «وإنّما أنت تظنّ أنك تعرفها أيضا» كما قال سقراط… أو أفلاطون «إنّك تتعايش، يا صديقي المسكين، مع أسوأ أنواع الجهل، فقولك بحد ذاته يتهمك أنت بالذات. وهكذا ترمي بنفسك في السياسة قبل أن تكون قد تثقفت» وذلك «سبب كل الأخطاء التي يتعرض لها فكرنا جميعا» محددا الحماقة والجهل لهؤلاء السجناء الذين، وهم سجناء منذ مدة طويلة في الحقيقة في مغارة، وأصبحوا فيها خبراء في الظل، ومسرورين بذلك لأنّهم لا يعرفون شيئا آخر».
رف الكتب
مُربّع الغرباء 1981
رواية «مُربّع الغرباء1981» للكاتب المغربي عبد القادر الشاوي تواصل البحث على مستوى التخييل الروائي في ارتباطه بأحداث تاريخية تعود بنا إلى سنوات الجمر والرصاص، وخاصة أحداث الدار البيضاء أو ما عبّر عنه الكاتب بنفسه في أحد حواراته: «لا يمكنني أن أنفي أنني استفدت من قراءة الوقائع الحية المرتبطة بما عرف يومها بـ(ثورة الخبز أو شهداء الكوميرا)، كما تعرفت على بعض المسارات الشخصية، التي كان لها دور في تلك الأحداث، والأهم من ذلك أنني كنت أحتفظ، من تاريخ تلك الفترة وأنا في السجن المركزي بالقنيطرة، برسائل وأوراق كتبتها عن الأحداث وحملتها عواطفي ومواقفي لأنها الأحداث أثرت في وجداني وربما كانت في وعيي أيامئذ علامة على ثورة ما أصيبت بإجهاض حاد بسبب ما اكتنفها من أوضاع وما فعل فيها من قمع. روايتي في الحقيقة، عن الذاكرة التي احتفظت بمجمل وقائعها رغم أن مرور الزمن وتطور الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد، أغرقتها في النسيان التلقائي». من أجواء الرواية نقرأ:
«حتّى خرجت إلى الوجود فكرة المقبرة، أو الحفر، أو الاكتشاف الذي كنتُ قد وصلتُ إليه صحبة مارية بعد خروجي من المجلس. فكان في تلك الفكرة المنجز الكبير الذي لا يمكن الاستهانة به، أو التقليل من أهميته، رغم المعارضة التي يمكن أن يعلنها جاحد لا يهمه من أمر انتشال الجثث من رقادها حيث تبيّن أنّها مطمورة، كما اتفق، في مركز الوقاية المدنية، لم يبق منها، كما سيتضح علانية، إلّا تلك العظام النخرة التي لم تجد فيها العائلات أيّ بيان على القتل، أو على الانتماء، أو شيئا من الرابطة الدموية الدالة على القرابة. كانت المقبرة قد فَتحتْ حفرتها في يومين أسودين من أيام الدار البيضاء في تلك الأحداث المعروفة في سجلات المجلس بـ«أحداث الدار البيضاء لسنة 1981». سنوات مرّت والجثث تتفسخ فوق بعضها. بدون صراخ ولا ألم، لأنّها قُتلت في الشارع العام بعد أن أفرَغتْ صراخها في المطالبة، كما تألمت وهي تتهاوى لا يسندها إلّا الإسفلت الحار من حرارة شهر يونيه القائظ. خرج المجلس بهذه الفكرة من العقم الذي انتشى به الأعضاء أزمانا. المقبرة فكرة جهنمية جديدة، أما وأن استصدار قرار بالشروع في الحفر لانتشال الجثث المطمورة، التي كثيرا ما أنكر عليها قتلتها كلّ حياة أو وجود. فقد أصبح الشغل الذي جعل الجميع، ومن تسابق إلى ذلك منهم بخاصة، يقومون إلى العمل كأنّهم أيضا خرجوا من حُفر المجلس بعد أكثر من ربع قرن للقيام بالواجب، كما قالوا، في سبيل الذاكرة الجماعية والمسؤولية الوطنية في تحقيق الإنصاف وإنجاح المصالحة».
متوجون
تتويج بيت الشعر في المغرب بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر
أعلنت الأكاديمية الدولية للشعر، التي يُوجد مقرُّها بمدينة فيرونا الإيطالية، تتويج بيت الشعر في المغرب بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر لسنة 2026، وذلك بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لتأسيسها. واعتبرت الأكاديمية الدولية للشعر في قرارها أنّ سبب الاختيار يعود للدّور البارز الذي قام به بيت الشعر في المغرب منذ تأسيسه، وخاصّة مُبادرته، التي أقدم عليها سنة 1998، المتمثلة في التوجّه إلى المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) بدعوة إقرار يوم عالمي للشعر، وكذا لانخراطه المتواصل في تعزيز مكانة الشعر والالتزام برسالته النبيلة من خلال الأنشطة والبرامج النّوعية، التي راكمها على مدى ثلاثة عقود، والتي كان لها الأثر البالغ في تثمين دور الشعر كجسرٍ للحوار الثقافي والإنساني. كما عبّر من جهته الشاعر مراد القادري رئيس بيت الشعر عن مدى اعتزاز بيت الشعر المغربي بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر، واعتبرها التفاتةً رمزيّة تجاه الحقل الشعري في المغرب، وتحيّة لها معنىً وقيمة للشعراء المغاربة بمُختلف حساسياتهم اللغوية والجمالية، وتكريمًا للشعرية المغربية التي أبانت عن تميزّها وفرادتها في الفضاء العربي والمتوسطي والعالمي، مُؤكدا أنّ هذه الجائزة ستكون حافزا للبيت على مُواصلة العمل خِدمةً للشعر ولقضاياه الفنية والمعرفية والإنسانية.
تأسست الأكاديمية الدّولية للشّعر في 23 يونيو2001 تحت رعاية اليونسكو، عقب انعقاد جمعية تأسيسية حضرها أبرز شعراء القارات الخمس، بمن في ذلك ثلاثة من الشعراء الحائزين على جائزة نوبل في الأدب، وهم: وولي سوينكا (نيجيريا)، وشيموس هيني (أيرلندا) وديريك والكوت (جزر الأنتيل). وقد لعبت منذُ تأسيسها، بدعم من اليونيسكو، دورًا أساسيًا في استدامة تأثير رسالة الشّعر على نطاقٍ دولي واسع، وهو ما خوّل لها جذْب انتباه عدد من المؤسسات الرئيسية التي ساهمت في دعْم أنشطتها وبرامجها كوزارة الخارجية الإيطالية، والمديرية العامّة للترويج والتّعاون الثقافي، وبلدية فيرونا، ومِنطقة فينيتو، وجامعة فيرونا، فضلاً عن مؤسسات أخرى. وتجدر الإشارة في الأخير إلى أنّ مراسيم تسليم الجائزة ستتمّ بمدينة فيرونا الإيطالية في 21 مارس 2026 بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للشّعر.