إعداد وتقديم: سعيد الباز
أثيرت قضية العلاقة بين الشعر والرواية، وعلى وجه التحديد انتقال الكثير من الكتاب الشعراء إلى مجال السرد والرواية على الخصوص. هذا الظاهرة التي أضحت لافتة للنظر، البعض اعتبرها دليلا على انحسار الشعر وانتهاء دوره الريادي لصالح الرواية، منذ أن أطلق الناقد المصري جابر عصفور مفهوم «زمن الرواية»، والروائي السوري حنا مينه عبارته الشهيرة «الرواية ديوان العرب». في حين يراها البعض الآخر مسألة طبيعية لا تتعلق بالشعر والرواية فحسب، بل قد تتجاوزهما إلى أجناس وأنواع أدبية أخرى، بالاستدلال إلى العديد من النماذج والحالات من فيكتور هيغو وماريا راينر ريلكه وبول أوستر إلى جبرا إبراهيم جبرا وسليم بركات… في جانب آخر يربط آخرون موسم الهجرة إلى الرواية، بهذا الكم من الجوائز بمكافآت مغرية مخصصة لها وتسابق دور النشر عليها، وتخصيص ورشات للكتابة الروائية، واهتمام معارض الكتاب بها دون غيرها من الأنواع الأدبية. ما خلق هذا التأثير الواسع قد لا يكون بالضرورة معبّرا عن زمن ما أو تطور معين، بقدر ما يعني توجها عاما مصاحبا لظاهرة «الجوائز» في الثقافة العربية الراهنة. في كل الأحوال، إن مدار المسألة في نهاية الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بإدراك خصوصية كل فن منهما على المستوى الفني والجمالي، وامتلاك ناصية أدواتهما التعبيرية الخاصة.
ثريا ماجدولين.. أثر الطير
تتعقب رواية «أثر الطير» للشاعرة والكاتبة المغربية ثريا ماجدولين، في أول عمل روائي لها، أحداثا يتشابك فيها الماضي بالحاضر، واستعادة لمرحلة سياسية مهمة من تاريخ المغرب، ما بين انتفاضة 1984 وحراك 20 فبراير 2011. فالرواية كما ورد في ظهر غلافها «رحلة الصحافية فريدة في البحث عن الحقيقة، وسط عالم يقاوم كشف المستور بين ظلال السياسة وصخب الذاكرة… تقدم الرواية سردا تأمليا يمزج الحلم بالواقع، وينسج من التفاصيل الصغيرة رؤى كونية، تجعل القارئ يتساءل: هل الحقيقة مجرد أثر طير في سماء غائمة؟»
هذه الرحلة المضنية التي تقوم بها الصحافية فريدة في البحث تتصارع في داخلها مشاعر متعددة بين العين المراقبة للأحداث وتأمل مساراتها وتداعياتها، قد لا يخلو من نفس شعري وشفافية تعبيرية تضفي عليها مسحة جمالية خاصة: «الهتافات لم تكن مجرد كلمات، بل شظايا من وجدانٍ متعب. ومع ذلك، كان الخوف يتسلل بين صفوف المتظاهرين، وكأنه جزء من المعركة. الكل كان يدرك أن التغيير لا يأتي دون ثمن، وأن هذا الثمن قد يكون أكثر مما تستطيع الأجساد المرهقة تحمله. لم يكن خوفا من الشرطة أو السجن، بل من تحول هذه اللحظة إلى مجرد ذكرى أخرى، تُدفن في أرشيف التاريخ، ويُعاد تدويرها في سرديات لا تخصنا. في خضم كل هذا، كنت أتابع الأخبار بحذر، وكأنني أخشى أن يتسرب منها خبر يدمر آخر قلاع طمأنينتي الهشة. التقارير الإخبارية كانت تصلني كجرعات زائدة من التوتر، كل كلمة فيها تحمل شبحا يقترب أكثر. شعرت كأن شيئا خفيا يترصدني، ينتظر اللحظة المناسبة ليدخل عالمي».
إن التساؤل العميق الذي تطرحه ساردة الأحداث، هل الحقيقة هي عبارة عن خفقة جناح طائر عابر، قد تُرى بأكثر من عين وقد يعبّر عنها بأكثر من كلمة: «… في مكتبي جلستُ أمام الشاشة التي بدت فجأة كنافذة إلى عالم لم أعد أعرف كيف أراه. بدأت أصابع يدي تتحرك ببطء، تحذف هنا، تضيف هناك، تخفف من حدة الكلمات، وتعيد صياغة الجمل، محاولة أن أوازن بين الصدق واللعبة التي أجبرني خالد على دخولها. لم أكن أكذب، لكنني كنت أتعلم كيف ألون الحقيقة بألوان هادئة، لا تجرح أعين من لا يريدون أو يروها. شعرت كما لو أنني أخون كل كلمة نطقتُ بها خلال المقابلات، لكنني كنتُ أتعلم للمرة الأولى كيف يمكن للحقيقة أن تنحني دون أن تنكسر. عندما سلّمتُ التحقيق المعدّل، لم أشعر بالراحة. الكلمات التي حذفتها كانت كالأشباح، تطاردني في كل زاوية من ذهني. كما لو أنني تركتُ فجوة صغيرة في الجدار، تسمح للعاصفة القادمة أن تتسلل دون مقاومة. في المساء، جلس عزيز بجانبي في مكتبي، صامتا لوهلة، ثم قال بصوت هادئ: فريدة الصحافة ليست معركة نخوضها بالحد الأقصى من الصدق دائما. هل كانت تلك الحقائق الصغيرة ستغير شيئا؟ أو تُحدث فرقا يلاحظه أحد ما؟… أضاف بجدية لم تخل من التعاطف: لا تنسي ما قاله لنا نيتشه: «الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل». قد يكون من المفيد أن تبحثي عن طرق أخرى لإيصال تلك الحقائق، إن كان هذا يقلقك.
أمعنتُ التفكير في كلماته، لكن شيئا ما في داخلي كان يرفض الانصياع لتلك اللمعة الفلسفية».
نزار كربوط.. سيّدات العزيز
بدأ الكاتب نزار كربوط مساره الأدبي شاعرا من خلال مجموعات شعرية «رماد العاشق» 2007، و«أحمري يبتلعه السواد» 2010، و«سقف من فراشات» 2013، و«أهب وجهي للفوضى» 2017… ثم أصدر روايته الأولى «العرض ما قبل الأول» سنة 2020، التي تم اختيارها في القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد. ثم أعقبها، بالتزامن مع وفائه للكتابة الشعرية روايته الثانية «سيدات العزيز».
الكاتب والشاعر نزار كربوط في كل حواراته يعتبر هذا الانتقال والمزاوجة بين الشعري والنثري، أو السردي على الأصح، أمرا طبيعيا، لا يقل عن جمعه بين تخصصه العلمي والطبي تحديدا. كما يحلو له القول: «أعيش وسط هذه المفارقة الجميلة والتي تعبر في الأساس عن الحياة، لأن الحياة في حد ذاتها مليئة بالمفارقات أيضا». ويضيف كذلك: «تجربتي في الطب والشعر والرواية علمتني الكثير، والشيء الأكبر والأهم هو في كل مرة أقول «تعلمت»، تعيدني إلى نقطه البداية وإلى الصفحة الأولى في كتاب الحياة».
يقدم الناشر رواية «سيدات العزيز»: «أما «العزيز» فهو عزيز وفي الدارجة المغربية يلفظ هكذا، ولكنه في دارجة الأيام فهو الذي تجري الرواية حوله ومعه وبلسانه، وهو ذلك الطفل التي اتخذ موقفا مضادا من العالم برمته، ظلَّ يلاحقه حتى وهو رجل يعمل محررا في صحيفة ودار نشر، ويحثه بلا انقطاع على الثأر. أما «سيداته» فهن النساء اللواتي أثّرن فيه وصنعن شخصيته المضطربة، لكن المتطلعة إلى النجاة. فبعد أن ماتت أمه وهو بعمر السنتين، أذاقته زوجة أبيه ويلات ما كان لطفل أن يتحملها، وأجبرته على الهرب، وهو طفل بعد، من المدينة، ليتعرف على نفسه في عوالم شعبية غنية. أما كاتب «سيدات العزيز» نزار كربوط فيضعنا، عبر أسلوب شائق، وتدفق سردي يشبه تدفق النهر، في خضم أحداث لاهثة بلا توقف، ليس عبر حدث يتطور ويتعرج ويظهر ويختفي حسب مقتضيات العمل فحسب، بل عبر لغة شعرية طبعت الرواية كاملة بطابعها، في نوع من التوازن الدقيق الذي جعل تلك اللغة الجاذبة لا تبتلع الحدث ولا الشخصية، فتحولهما إلى أشباح تخاتل خلفها، بل تساهم أكثر فأكثر في إظهار الوجوه المتعددة لهما وطبقاتهما وتناقضاتهما، وما إلى ذلك … الحب والثقافة وإرادة التجاوز ثالوث هذه الرواية الذي يعمل بدأب لإضفاء قيمة ومعنى على الحياة الشخصية للأفراد».
نقرأ من أجواء الرواية: «أُحبُّ أن أكون إنسانا طبيعيا ككل الذين من حولي، هؤلاء الذي يعيشون في فقاعة الرخاء وراحة البال، يستفيقون على صوت أباريق القهوة والملاعق التي تحرك السكر، ثم ينامون وهم يفكرون في كيفية دفع الفواتير وسداد القروض الصغرى التي تُبقيهم قيد العيش ليس إلا، عقلي يدور بقوة ألف حصان، ولا يهدأ عن التفكير أبدا، رادار عقلي محتاج إلى الصيانة، هذا أقل شيء يمكنني فعله الآن.
لا شك أنها ستطلب مني إتمام القصة، وستقوم بتحليل كل كلمة في مختبر حواء لعلوم الصحة والبيولوجيا والسوسيولوجيا وجغرافيا الأفكار وما وراء الأفكار، ستقوم بتحليل كل الجمل التي نطقتُ بها، وكذلك لحظات الصمت أيضا، وهذا ما يقلقني أكثر؛ «الصمت» فضَّاح، ويخفي من ورائه آلاف العاهات والتناقضات والأسرار المُعلَنَة منها والمُضمَرَة. فكرة مضحكة جدا؛ «مختبر حواء»! ربما سأفكر لاحقا في كتابة رواية بهذا العنوان، مَنْ يدري؟».
ريم نجمي.. العشيق السري لفراو ميركل
انطلقت تجربة الكاتبة والإعلامية ريم نجمي بداية في مجال الشعر من خلال أعمالها «أزرق سماوي»، و«كأن قلبي يوم أحد»، و«كن بريئا كذئب»، كما أسهمت كذلك في مجال الترجمة. كانت روايتها الأولى «تشريح الرغبة» عن الهجرات العربية إلى أوروبا، تلتها رواية «العشيق السري لفراو ميركل»، التي كانت ضمن اللائحة الطويلة لجائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرا. هذه الرواية تضم كذلك صورة عن ميركل وتاريخها السياسي والشخصي، ورمزيته الدالة على المجتمع الألماني والأوروبي بصفة عامة.
تحكي رواية «العشيق السري لفراو ميركل» قصة يونس الخطيب، شاب ألماني من أصل سوري. يعاني من هوس العشق تجاه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. بعد محاولته دخول بيتها لتسليمها رسالة حب، تلقي الشرطة القبض عليه. لكن ميركل تطلق سراحه، بعد قراءة الرسالة التي تكشف عن مشاعر مشوشة. يونس الذي يعاني من «إرتومانيا» (هوس العشق)، يعتقد أن ميركل سترتبط به ويقاطع خطيبته وعائلته، منتقلا إلى شقة صغيرة، حيث يغرق في جنونه. بعد محاولة فاشلة لاقتحام منزل ميركل ثانية، يُودع مستشفى للأمراض النفسية ويخرج بعد تحسن حالته. لكنه مع قرار ميركل استقبال اللاجئين السوريين في ألمانيا، يشعر بالخيانة ويخطط لقتلها. كتب الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد عن رواية «العشيق السري لفراو ميركل»، قائلا: «… إن شكل أي رواية وتعدد لغات شخصياتها هو ما يجذبني فالموضوعات كثيرة، لكن كيف ينسج منها الكاتب عملا حافلا بالمعاني… في هذه الرواية القصيرة تنجح ريم نجمي ببراعة في تقديم هذا البناء. إن الصفحات القليلة مثلا من تعليقات الصحف على ما تفعله أنجيلا ميركل في الحياة السياسية، تجعلك تكاد تصدق أن الرواية حقيقية. تبدو الرواية بسيطة، لأن وراءها جهدا رائعا في البناء، ونجحت ريم نجمى في هذه الرحلة الفنية التي تستحق الاحتفاء».
تتساءل الرواية في ظهر الغلاف هل للمستشارة الألمانية الشهيرة أنجيلا ميركل عشيق سري؟ هذا ما يدعيه، على الأقل، يونس الخطيب الشاب السوري الذي وُلد في ألمانيا في أسرة متدينة مهاجرة. تمثل أنجيلا ميركل ليونس الخطيب لا فقط القيم الألمانية والأوروبية التي يؤمن بها، وإنما ظل يعتبرها «حب حياته» في لحظة انفلات غامضة، والتي سيحقق معها خططا مستقبلية اتفقا على تحقيقها، بعد أن تترك منصبها كمستشارة.
عبد الرحيم الخصار.. جزيرة البكاء الطويل
الشاعر عبد الرحيم الخصار قدم تجربة شعرية متميزة وهامة تمتد من «أخيرا وصل الشتاء»، «انظر وأكتفي بالنظر»، «نيران صديقة»، «بيت بعيد»، «عودة آدم»، «القبطان البري»، «عداء المسافات القصيرة»، «العزلة فرد من العائلة». كما كتب في أدب الرحلة «خريف فرجينيا رحلات إلى أمريكا وأوروبا». كانت رواية «جزيرة البكاء الطويل» أول عمل روائي له، عن هذه التجربة يقول: «الكتابة الروائية تختلف كثيرا عن تجربة كتابة الشعر، فيها بحث وتركيز ووقت وخرائط ووثائق وجذاذات. بالنسبة إلي كانت عملا مضنيا، رغم قصر الرواية التي تقع في حوالي 150 صفحة، إلا أنها استغرقت مني خمس سنوات من الكتابة بشكل متقطع. كشاعر كانت تجربة مختلفة واستفدت كثيرا من آليات الكتابة الروائية وطريقة التفكير والبناء».
يكتب الناشر في تقديمه للرواية بالكثير من الدقة والإيجاز دلالة الشخصية الرئيسية، والسياق التاريخي الذي تدور فيه الأحداث: «تتعقب هذه الرواية حياة مصطفى الأزموري، أو استيفانيكو، وهو يتحول من عبد إلى رمز تاريخي. الزنجي، ابن الشمس، الفاتحُ الأسود، استيفان المُوري. تعددت أسماؤه، ومعها تعددت ألوان أيامه في هذه المغامرة القدَرية التي قادته عبدا من أزمور بالمغرب، بعد أن باعه والده إلى البرتغاليين، مرورا بإسبانيا التي صار فيها سيدا، وصولا إلى أن يكون، في بداية القرن السادس عشر، مكتشفا لمدن الذهب في أمريكا وما فيها من أسرار وأهوال. شخصية استثنائية استطاع الكاتب مقاربتها بحفر مُضن في الذاكرة، عبر سردية أدبية تغوص في تفاصيل حدث معلوم يكتنف تاريخه الكثير من الغموض… هي أيضا، رواية عن الحب الذي لم يكتمل، عن الصداقة والخيانة، والألم والظلم الإنساني الذي مُورس على سكان مدينة أزمور في المغرب، وعلى المورسكيين في إسبانيا، وعلى الهنود الحمر في موطنهم». تفتتح الرواية أحداثها بهذا المطلع الدال على أجوائها وسياقها التاريخي:
«وقفتُ على الساحل، أنتظر مثلما ينتظر الآخرون أن تصل السفن البرتغالية التي كانت تنقل كل يوم العشرات منا باتجاه الضفة الأخرى من البحر. لماذا كبلوا أيدينا وأقدامنا بسلاسل الحديد، وأحكموا إقفالها؟ فنحن رغم كل شيء لن نهرب، ثم إلى أين سنهرب؟ نحن أيضا نريد الذهاب إلى هناك أو أي مكان آخر بعيدا عن هذه المدينة، التي نشأنا فيها وأحببنا ترابها وماءها وأسوارها العالية. لم يكن الموت يخيفنا. لكن، أن نموت غرقى في البحار في لحظة خاطفة خير من أن نموت هنا بالتقسيط من فرط الجوع. وقفتُ أنتظر السفينة، باحثا في الآن ذاته عن أبي الذي لمحتُه، قبل قليل، ينظر إليّ بعينين متعبتين، لم يعد بإمكان الدمع أن يسيل منهما. فقد جفتا تماما بعد سنوات من العيش الشاق والكئيب. كان وسط الحشود التي جاءت لتودع أبناءها. أعرف أنه لم يأخذ مقابل بيعي إلى البرتغاليين الكثير من المال، في الغالب سيقول مع نفسه: «لا بأس، سيعيش الفتى في بلاد فيها طعام، وهذا المال سيكفي، ولو لأسابيع، ليطعم من تبقى في الكوخ». كثيرون باعوا أبناءهم مقابل خيشة من الشعير، أو قفة من التين المجفف وقليل من العنب اليابس. أبي كان من القلائل الذين أمسكوا المال بأيديهم، قبل أن يتخلوا مقهورين عن أبنائهم. بحثتُ عنه طويلا بعينيّ، فجأة بدا لي هناك، بين مودعين آخرين، واضعا يده على خده، محاولا أن يشيح بوجهه عن الجميع. كان ينظر إليّ بمشاعر لا أعرف كيف أصفها. أن تبيع ابنك إلى الذين يحتلون أرضك هي حالة من الذل المضاعف. لكن، لا فرار. نظرتُ إليه راغبا في مناداته وتوديعه بكلمة ما، أية كلمة، وحين التقت نظراتنا اختفى».
محمد أبو زيد.. الشعراء من السماء، الروائيون من الأرض
الشاعر والصحفي المصري محمد أبو زيد في كتابه «الأرنب خارج القبعة» يطرح العلاقة بين الشعر والرواية وخصوصية كل واحدة منهما، وكيف بالإمكان قراءة الانتقال من الشعري إلى الروائي بصورة مختلفة خارج التصورات السائدة:
«… لا أميل لمقولة إن الشاعر يكتب الرواية لأنه يبحث عن الشهرة، أو لأنها تحصد الجوائز، فهو ليس تاجرًا يبحث عن الأكثر ربحًا، كما أن الشاعر لا يميل لابتزاز عبارة «زمن الرواية»، لأنه يعلم كما يعلم الجميع المقولة القديمة أن «الشعر هو أعلى مراتب الفن». الأمر لا يتجاوز أنه يبحث عن مساحة جديدة للكتابة، تجريب في مساحة أخرى، اكتشاف «سحر» جديد يملك تفاصيله، مستغلا فيها أدواته الشعرية، ولهذا تبدو روايات الشعراء تحمل لغة مختلفة، يميل النقاد لتبريرها بأن سببها قدومهم من عالم الشعر، مع أن الحقيقة أن هذه اللغة هي سلاح الشاعر الحقيقي الذي يقتحم به العالم الجديد لذا يتميز الشعراء القادمون من هذا العالم، سواء حافظوا على كونهم شعراء فيما بعد أم لا، ففي الأدب العربي نجد تجارب «رشيد الضعيف» و«جبرا إبراهيم جبرا» و«إبراهيم نصر الله» و«سليم بركات»، وفي التجارب العالمية نجد «تشارلز بوكوفسكي» و«بورخيس» و«بول أوستر» و«ميلان كونديرا» و«كواباتا» و«ساراماغو»… وكلهم بدؤوا بالشعر.
قد يبدو من المزعج للبعض الآن التفريق بين أنواع الفنون المختلفة، ونحن نتحدث عن الرواية الشعرية، والسرد في الشعر، والكتابة عبر النوعية، والتداخل بين أنواع الفنون المختلفة، وموت النص الأدبي، والنص المفتوح …لستُ معنيا هنا بالقول بأفضلية أحد الفنيْن على الآخر، فالفن في النهاية واحد، أيا كانت الطريقة التي يُقدم بها. لكن في معظم الحالات تكون البداية من الشعر. كل الروائيين بدؤوا بكتابة الشعر في صباهم، قبل أن يتجهوا للرواية. الشعر كان هو ضربة الموهبة الأولى، لطخة الفرشاة الأولى التي ستشكل الرسم، السلمة الأولى لصعود الدرَج، اكتشاف بدايات الدهشة.
الشعراء عادةً يتجهون لكتابة الرواية، لكن قلما تجد روائيا اتجه لكتابة الشعر. هذا لا يعني أيضًا صعوبة أحدهما عن الآخر، لكن مفهوم الشعر يبدو مُلغِزًا قليلًا لمن لم يكتبه منذ البداية. الشعر يطرح الأسئلة، والرواية تقدم أجوبتها. الشعر هو اللغز، والرواية هي المفتاح الكامن بين الورق. الشعر كلمة، والرواية فقرة. الشعر سَيْر فوق السحاب، الرواية انتظار نزول المطر. الشعر من عالم آخر، الرواية من هذا العالم. الشعر هو السراب، الرواية هي الماء الذي كان سرابًا. الشعر قائم بذاته حتى لو اعتمد على السرد، الرواية وعاء جامع يستطيع أن يضم كل الفنون. الشاعر يملك عينَيْ صقر تنظران للمشهد من أعلى، والروائي يسير في الدروب بحثًا عن خيط طويل. الشاعر يفضل أن يحمل لقب «شاعر» حتى لو كتب الرواية، الروائي يتمنى أن يصبح شاعرًا. قُراء الشعر قِلة لأنهم نخبة، الرواية أكثر انتشارًا حتى بين العامة. الشعر لا يصل إلى «البيست سيلر» ولا يهتم بذلك، الروايات حتى الرديئة منها تصبح الأكثر مبيعًا. الشاعر بجناحَيْن، الروائي يقود دراجة في حي شعبي. الشعر صوت الرعد وضوء البرق ونزول المطر، والرواية صعود البذور من الأرض في شجيرات. الشعراء من السماء والروائيون من الأرض.
هل أنا منحازٌ للشعراء؟ طبعًا.
مقتطفات
الخوف من الأفُول.. البحث عن المعنى في القرن الواحد والعشرين
كتاب «الخوف من الأفُول: البحث عن المعنى في القرن الواحد والعشرين» للكاتب كارلو سترينجر Carlo Strenger يعبر عن المخاوف اليومية للإنسان المعاصر وتساؤلاته الملحة حول الهدف والمعنى في عالم يضج بالإشهارات المصطنعة والقيم السطحية التي تسودها التفاهة في معظمها. يمزج الكاتب بين الفلسفة من جهة وعلم النفس من جهة أخرى في محاولة لفهم الذات وإعادة اكتشاف معنى للحياة في القرن الواحد والعشرين. يقول الكاتب كارلو سترينجر: «يحاول هذا الكتاب تشخيص علة الإنسان المُعولم، ومن ثم يجادل جانبين متباينين ومتقاطعين في الوقت نفسه. إذ يحاول الجزء الأول من الكتاب التركيز على تشخيص محنة الإنسان المُعولم. بحيث يرسم الفصل الأول الخطوط العريضة للتغييرات الثقافية والوجودية التي أحدثها النظام المعلوماتي والترفيهي العالمي من وجهة نظر تنظيرية. نلاحظ في هذا الفصل عمق حاجتنا للشعور بأننا معرفين لا مهمشين، وكيف تتجذر هذه الحاجة في طبيعتنا البيولوجية، بشهادات الفلسفة الوجودية ووريثها علم النفس الوجودي التجريبي.
يركز الفصل الثاني على سمتين من سمات الثقافة العالمية التي يوفرها النظام المعلوماتي الترفيهي:… «افعلها فحسب»… لإظهار كيف أنها تجسد روح العصر (كل شيء يمكن تحقيقه)، وأهم شيئين هما الشهرة والثراء، وكلاهما قابل للقياس والتقييم والتصنيف في كل مكان في العالم. يجادل الفصل الثاني بأن هذه التصنيفات دعت الإنسان المُعولم إلى الشعور بأن مكانته يمكن تحديد قيمتها، ويمكنه العيش في خوف من فقدان مرتبته في قائمة المشاهير الأكثر ثراء وجاذبية وجمالا، ومن ثم تبرز معضلة الخوف الدائم من الأفول وأن يكون الفرد نكرة.
يحلل الفصل الثالث بعض الموارد التي عبرها يحاول بنو الإنسان المُعولم التخلص من خوفهم المستمر من الأفول: ثقافة التنمية الذاتية والروحانية الشعبوية. إن منتجات هاتين الظاهرتين تستند على أسس فكرية مهتزة وتجادل بأن الرؤى القلقة وغير المتماسكة لا يرجح أن توفر معنى القيمة الدائمة. وإن مذهب النسبية الذي يجعل من ثقافتنا متسامحة بإفراط يخلو من البنية الفكرية المتماسكة.
هكذا يتفرع الكتاب في اتجاهين: يقدم الجزء الثاني بديلا وجوديا لمفهوم الذات التي روجت لها ثقافة «افعلها فحسب» إلى إعادة تأسيس ثقافة المنطق بوصفها ترياقا للفلسفة النسبية الطائشة. كما يبين أن جميعنا ولدنا في اسرة وثقافة ولغة لم نخترها. وكان علينا أن نختار ما تتقبله تربيتنا وخلفيتنا، وما علينا رفضه، وكيف نحول حياتنا إلى شيء من صنيعنا. غالبا ما تكون هذه المهمة متضاربة وشاقة. لذلك يطرح هذا الفصل فكرة أن الحياة الهانئة لا تعتمد على حل هذه الصراعات، ولكن أن تعيشها بكامل أيامها وإنتاجيتها… ويتساءل الكاتب: «إن لم يكن كل شيء ممكنا، كيف نحدد ما المهم في حياتنا؟ كيف ندرك ما يهمنا حقا؟». ليقر بأن هذه العملية أمست شبه مستحيلة، لأن الثقافة تقدر الشباب أكثر من أي شيء آخر. ويجدر بنا أن نكون ناجحين في وقت مبكر جدا، ومن ثم فإن عملية اكتساب معرفة الذات باتت شبه مستحيلة». لذا يحاول الكاتب في هذا الفصل أن يوضح في أمثلة كيف أن الوصول إلى معرفة الذات تحتاج زمنا في شكل ما.
إن أوجز خلاصة لكتاب «الخوف من الأفول» ما عبر عنه الكاتب: «نحن مثل الفنانين متعددي المواهب الذين لا يمكنهم بدء عملهم من الصفر… أو وضع صفحة بيضاء في الآلة الكاتبة، لأن المواد الخام موجودة فينا، وجزء كبير من عملنا (الحياة) موجود بالفعل، ولا نستطيع المُضي إلا وفق تاريخنا. إن وضعنا الوجودي أشبه بحال الفنان الذي لم يشتر المواد اللازمة لابتكاراته وفق خطة مسبقة إطلاقا، ولكن مثل متعدد المواهب يأخذ المواد الموجودة في متناول يده من هنا وهناك، ثم يبتكر منها ما ملكت يداه. إن مهمة حياتنا أن نحول القصة إلى عمل نختبره بأنفسنا فعلا، لنصبح مؤلفي حياتنا، مع أننا لم نبدأ هذه القصة بخياراتنا».
رف الكتب
“في متاهات الأستاذ ف. ن.”
تقدم رواية «في متاهات الأستاذ ف.ن» للروائي والمترجم المغربي عبد المجيد سباطة إطار أحداثها على الشكل التالي: «لم تكن الوفاة الغامضة لفريد النوري، أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية، بعد فضيحة تحرش دمرته وهزت أركان كليته، لتجيب عن أسئلة عالقة حول حقيقة هذا الرجل، الذي تأرجحت سيرته بين الضبابية والوضوح، ما استدعى العودة إلى ماض بعيد، يتعدى سنوات عمره بعقود، وربما بقرون، ويتجاوز حدود طنجة، إلى أرجاء مترامية الأطراف حول العالم. ربما لأن السيرة الفعلية لأي إنسان لا تبدأ بولادته، وقد لا تنتهي أيضا بوفاته، كما أن الحقيقة واحدة، وإن تعددت طرق قراءتها، وسبل الوصول إليها…».
يقول عبد المجيد سباطة عن الظروف الخاصة لكتابة روايته: «ولدت فكرة هذه الرواية نهايات عام 2019، أي مباشرة بعد مغادرتي «معتقل» رواية الملف 42. لكن الفكرة طبعا كانت شديدة الاختلاف عن الشكل الذي ظهرت به في الرواية الجديدة بعد صدورها. إن مشروعي بداية كان رواية عن بناية سكنية تضم أطيافا متعددة من النسيج المغربي، في حقبة تاريخية معينة، وبدأت أشتغل على هذا الأساس، رغم قلقي ويقيني الداخلي أن «الرواية-العمارة» قد استنفدت كل أشكالها ومضامينها، وما كنت لأقدم أو أضيف أي جديد إلى ما سبقني إليه آخرون، عربيا وعالميا، وإن حاولت إضفاء صبغة مغربية خالصة على هذه العمارة.
تقول القاعدة (التي وضعتها أنا) إن السبيل الوحيد لطرد فكرة عششت في ذهنك طويلا هو تحويلها إلى مشروع بحث أكاديمي، فكان ما كان، وقدمت بحث تخرجي من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة باللغة الفرنسية حول «ترجمة تعدد الأصوات والتنوع الثقافي في الرواية-العمارة: الحياة دليل استعمال لجورج بيريك وطيور الهوليداي إن لربيع جابر أنموذجا»، وبعد مناقشة انتهت بسؤال لا يخلو من نبرة استفزاز واستهزاء: «طيب، ما هي الخلاصة الأخيرة التي استقيتها من هذا البحث؟» فكانت إجابتي صادقة ومباشرة: «خلاصتي هي أنني لن أكتب رواية تدور أحداثها في عمارة أبدا…» (لكنني خالفت قراري جزئيا بظهور غرف فندق طنجاوي متخيل عوض بناية مغربية ضمن أحداث الرواية).
عبد الله ناصر.. «ثورة الأيام الأربعة»
تمنيت لو التقيت يوسا في حياته، مع أن الأسطورة تزعم أنك إذا التقيت بكاتبك المفضل أو عكفت على قراءة أعماله الكاملة فستتوقف عن محبته في الحال. عندما زرت مدريد قبل سنوات بعيدة حملت في جيبي رقم وكيلته الأدبية كارمن بالسيز كما كان يحمل في الزمانات أبناء القرى وريقاتٍ سُجلت فيها أرقام أقاربهم في المدن، وريقاتٍ تجعدت لفرط ما تفقدتها أيديهم الحريصة والخائفة. لو ضاعت منهم لضاعوا في المدينة. ما كان للأدب اللاتيني أن يغير شكل الأدب العالمي آنذاك، وما كان للبوم أن يدوي في الأرض لولا جهود كارمن العظيمة.
ما إن وصلتُ إلى الفندق حتى اتصلت برقم الوكيلة فأجابت السكرتيرة التي لا تجيد الإنجليزية. كلمة مني وكلمة منها، كلمة مرتبكة، وكلمة متسائلة. لا أفهمها ولا تفهمني في مشهد مُعاد من بابل القديمة. تنبهت عندئذ كيف يحولنا الإعجاب إلى حفنةٍ من الحمقى. إذا كان هذا ما يفعله الإعجاب، فما الذي ليس بمقدور الحب أن يفعله؟! أغلقت الهاتف. حتى لو التقيت يوسا فلن أقول له ما أريد قوله، ولو فعلت فما كان ليعلم أي درجةٍ من الافتتان قد بلغتها في ما يكتبه، ولو علم لما تذكرني بعد ساعات.
أطوف قبل أيام في أروقة معرض أبو ظبي للكتاب فأجد هاروكي موراكامي بعظمه ولحمه! أيكون هذا نصيبي من الكُتاب؟
تبقى من الأحياء الأجانب خوان خوسيه مياس أمد الله في عمره، وأبطأ من حركة الزمان. كنت مرةً أخرى في مدريد مع مترجمه أحمد عبد اللطيف. نشرب العنب ونأكل الكالماري في أحد المطاعم القريبة من غران فيا. سألت أحمد كم نسبة احتمال أن يمر مياس من هنا؟ قال دون أن يرفع رأسه: «صفر»، وأضاف يسكن مياس على أطراف مدريد ثم حدثني عن زيارته لمسكنه. ولما كان أحمد لا يعلم الغيب ظللت أحدق بوجوه المارة لعلي أرى وجه حبيبي حتى يئست بعد ثلاث ساعات. مشيت بعدها وإن رحت أتلفت بين الحين والآخر لعلي أرى مياس يركض ليعانقني.
أشفق علي صديقي الجميل عبد الرزاق الهويمل فجمعني بمياس في دراسته المقارنة التي حاز عنها درجة الدكتوراة في سيميائية السرد القصصي عند مياس وعبد الله ناصر. يعلم الله أني بذلت ما بوسعي لأثنيه عن ذلك.
على أن الله قد أنعم علي بلقاء كتاب أحبهم، بل جعل بعضهم من أصدقائي المقربين. إنما أشكو لكم كما يفعل الرجال في القهوة حينما يشتكون من مدرائهم أو نسائهم -ما الفرق؟- فإذا حصلوا على ترقية أو تصالحوا مع المدام أخفوا الأمر وتشاغلوا عنكم. ما أطول المقدمة حتى أحدثكم عن سي عبد الكريم جويطي أحد أعظم الكتاب في العالم العربي والغربي وفي الكواكب البعيدة إن وُجِد فيها كُتابٌ كبار.
عرفته متأخرًا لسوء الحظ. ليس لانشغالي بيوسا، بل ربما لأن المشارقة لا يعرفون إلا القليل من المغاربة، والمغاربة أيضًا يجهلون المشارقة، ودور النشر هنا وهناك تتقاعس في تقريبنا من بعض. عرفته أخيرًا من «ثورة الأيام الأربعة». عمل عظيم -ولا أستخدم هذه الكلمة إلا نادرًا- بل أحد أعظم ما قرأت في حياتي. هي عندي من أجمل ثلاث روايات عربية. قرأته مرتين فما زادتني إلا تقديرًا وافتتانًا. وكان من سعاداتي أن التقيت به في المغرب. دعانا -أنا والعقيبي- إلى بني ملال هذه المدينة التي سيخلدها سي عبد الكريم في كتبه. صعدنا معه الجبل خلف الثوار في روايته. سرعان ما تعب صديقي العقيبي إذ تبين أنه لا يصلح للخروج في ثورة جبلية. لو خرجنا حقًا لتركناه هناك ثم أرسلنا من يسكته إلى الأبد فلا يشي بنا للسلطات.
أكرمني سي عبد الكريم جويطي فأنزلني في عقله وأفكاره وذكرياته ثم أنزلني في داره وحديقته ومكتبته. شربنا من عين أسردون على أمل أن تعيدنا معًا لأن الأسطورة تقول إن من يشرب ماءها لا بد أن يعود إليها يوما. تجلس إلى سي عبد الكريم فيأخذك لبطون كتب وأفواه شعراء وأشياء لم تسمع بها من قبل حتى تظن نفسك دخيلاً على الأدب. تجلس إلى رجل في منتهى اللطف حتى تظن نفسك وحشًا بالمقارنة به أو حتى قاتلًا ومغتصبًا.
صدر الجزء الثاني من رباعيته وما هي إلا صفحات حتى أيقنت أنني ما كنت أبالغ في كل ما قلت. بل لعلي قصرت. قلما أكتب عن الكتب التي تعجبني خشية أن أنزلها منزلة أقل مما تستحق.