في بداية هذه السنة عزمت رفقة بعض الأصدقاء على تأسيس جمعية محلية بمدينة لا تبعد عن العاصمة الرباط سوى كيلومترات بهدف الإسهام بما راكمناه في خدمة مجتمعنا وفق ما يمليه عليه ضميرنا وقناعتنا، وذهبنا ندق باب السلطة الإدارية المحلية في بداية الأمر لإرشادنا بشأن إجراءات التأسيس، لكون هذه العملية تختلف من مدينة وأخرى حسب تصور كل إدارة ترابية محلية والعاملين بها.
بالفعل، تم إخبارنا بمسطرة التأسيس: ضرورة توفير مقر لعقد الجمع التأسيسي للجمعية وموافقة صاحب المقر، وضرورة التقيد بنموذج الإشعار بعقد الجمع العام (تسلمنا نسخة منه) يرفق وجوبا بالنظام الأساسي للجمعية وتسمية الجمعية، نعم تسمية الجمعية قبل الجمع العام ويجب الاحتفاظ بنفس التسمية! ثم بعد عقد الجمع العام يجب العودة للباشوية لتسلم نموذج التصريح والوثائق المطلوبة، والتي تتضمن محضر الجمع العام والنظام الأساسي ولائحة الأعضاء وشهادة إثبات المقر! هذه هي المسطرة الجاري بها العمل.
التفت إلى مرافقي، وهو أحد أعضاء لجنة التحضير للجمع العام، ونحن بمكتب مصلحة الجمعيات وأردت أن أنبه الموظف إلى أن الفصل الخامس من الظهير الشريف المتعلق بحق تأسيس الجمعية لا ينص بعض الإجراءات التي ذكرناها، فنبهني صديقي الذي سبق له التعامل معهم بهذه المدنية وهو يمزح، وقال لي: إذا أردت أن نؤسس هذه الجمعية عليك أن تنسى “القانون” و”كلية الحقوق” و”وزارة العلاقات مع المجتمع المدني” و”البرلمان” ولا تناقش، ولا تتصرف كأنك تفهم!
طيب كم يتطلب هذا المسار؟ بدون شك تبدأ الرحلة من الباشوية إلى دار الشباب ومندوبية قطاع الشباب والمكتبة لطبع الوثائق والمصادقة عليها، ويجب أن تكون متفرغا ومتحليا بالصبر وعليك أن تضع أعصابك في الثلاجة لتقبل مجموعة من المتطلبات والشروط والتنقل ذهابا وإيابا أحيانا قد تجد المسؤول أو يقول لك عد غذا أو في بداية الأسبوع المقبل، العملية قد تتطلب أسابيع إضافية إذا صادفت العطل وفي الأخير قد يمتنع الموظف بالقيادة أو الباشوية المكلف بالملف تسلم ملف التصريح بالتأسيس إذا خالفت أحد القواعد التي رسمها لك مسبقا، مثلا لو غير الجمع العام اسم الجمعية، وهو الأمر الذي حدث لمشروع جمعيتنا والتي اضطررنا لصرف النظر عن مواصلة مسار تأسيسها.
مسطرة تأسيس الجمعيات وفق القانون الجاري به العمل بالمغرب تخضع لنظام التصريح، ولا تلزم المؤسسين لا بعقد جمع عام ولا الإدلاء بشهادة إثبات المقر، والحقيقة أن موظف السلطة الإدارية لا يهمه ما ينص عليه القانون ولا يشغل باله بذلك ولا يجتهد لمعرفته من الأصل، وحتى القوانين الجديدة كقانون تبسيط المساطر الإدارية على سبيل المثال قد لا يأخذ علما بها وما يزال يطلب منك المصادقة على الإمضاء.
وهنا وحتى تتضح الأمور فإني لا ألوم الموظف وحتى السلطة الإدارية المحلية، فالموظف في كل الأحوال يشتغل وفق الثقافة الإدارية السائدة، أو ما جرت به العادة، ويخضع للتسلسل الإداري ويطبق توجيهات وزارته ومرؤوسيه، ومن جهة أخرى، فهذا المسار اعتبره “بارومترا” لوضعية حرية تأسيس الجمعيات ببلادنا ومدى يقظة هذه الأخيرة وبمثابة قياس لفعالية السياسات العمومية المرتبطة بالمجتمع المدني.
استحضرت هذا المشهد الميداني وبلادنا تحتفل اليوم بالذكرى العاشرة لأول احتفال رسمي باليوم الوطني للمجتمع المدني عقب اعتماد دستور يعطي مكانة متميزة لحقوق الإنسان ولجمعيات ومنظمات المجتمع المدني وعقب حوار وطني رسمي وموازي حول المجتمع المدن تكلل بأمر لصاحب الجلالة الملك محمد السادس الصادر في 23 ماي 2014 باتخاذ يوم 13 مارس من كل سنة يوما وطنيا للمجتمع المدني، يكون مناسبة للاحتفال بالجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وإبراز جهودها وتقييم أدائها واستشراف آفاقها، وتنفيذا لهذا القرار الملكي تم إصدار منشور رئيس الحكومة في 6 فبراير 2015 يدعوا فيه ويحث الجميع على الاحتفاء بهذا اليوم، غير أنه تم تدريجيا صرف الانتباه عن هذا اليوم الوطني أو ربما تم التغاضي عنه.
تحل 13 مارس لهذه السنة، في بيئة يعم فيها الارتباك بخصوص أدوار المجتمع المدني وأهميته، هل نريد مجتمعا مدنيا مستقلا وفاعلا ومزعجا للسلطة (إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك) ومبتكرا ومبادرا أم نريد مجتمعا مدنيا تابعا ومتحكما فيه وملحقا بالإدارات العمومية والجماعات الترابية والأحزاب وتحت الطلب؟
نخشى -اليوم – أن يتم تكريس فكرة أن الفاعل الجمعوي مجرد انتهازي يبحث من وراء انخراطه في العمل الجمعوي عن فرص للاغتناء (؟) أو التموقع الحزبي والسياسي. إن تعميم هذه الصورة النمطية للفاعل المدني تسيء للمواطن والوطن عموما وتكرس التراجع عن الدفاع عن قضايا المجتمع المدني وقيمه وابتكار حلول لمشاكله وترك الساحة لنوع معين من الأشخاص الذين يأكلون مع الذئب ويبكون مع الراعي.
ولا ننكر في هذا المقال أن عدم استحضار ثقافة حقوق الإنسان وفقدان بوصلة قيم المجتمع المدني النبيلة وفضائله تدفع الكثير من الناس للارتماء في أحضان الريع الجمعوي واستغلاله في البحث عن مكاسب شخصية أو حزبية أو اعتباره وسيلة للتقرب من أصحاب النفوذ. لكن مع ذلك، لا يجب أن نعمم، وعلينا أن نستحضر كفاح ونضال فئة من الفاعلين المدنيين الذي لا يزالون متشبثين بقناعاتهم في الدفاع عن قضايا المجتمع والوطن والترافع حولها ومحاولة ابتكار الحلول للمشاكل المطروحة والتضحية بجهودهم ووقتهم ومالهم، ونرى بعضا منهم، من داخل الوطن ومن خارجه، يتم تكريمهم في شهر دجنبر من كل سنة في حفل تسليم الجائزة الوطنية للمجتمع المدني التي تنظمها الوزارة المكلفة بالعلاقات مع المجتمع المدني.
الكثير من هؤلاء الفاعلين المدنيين يناضلون في بيئة صعبة، بين عدم فهم الفئات المستهدفة لأدوار المجتمع المدني وقيمه (لكون الفاعل المدني متهم بالانتهازية إلى أن تثبت براءته) وبين بيروقراطية الفاعل العمومي وتعقيدات مساطره وضعف الحكامة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة أو أحيانا اللامبالاة.
وهذا يدفعنا للتساؤل عن تكلفة النضال في مجال العمل الجمعوي وهل من الضروري أن يدفع المناضل كل هذا الثمن ليكرس الحقوق الأساسية ويجتهد في إيجاد حلول لمشاكل لا تثير انتباه السلطات والترافع حولها وفق مبادئ الديمقراطية التشاركية، أو للحد من “تغول” أو “تجاهل” بعض العناصر من أصحاب النفوذ سواء من الإدارة أو الحزب أو القطاع الخاص للفئات الهشة أو ليساهم في تنمية مجتمعه والترافع عن قضايا هذه الفئات الهشة والمهمشة؟ وهل من الضروري أن يصطدم هذا الفاعل المدني بالجميع بدأ من أول خطوة من تأسيس الجمعية؟
إن الاحتفاء باليوم الوطني للمجتمع المدني يستوجب طرح الأسئلة المحورية حول المجتمع المدني الذي نريده، واستحضار التحديات المطروحة التي جاءت ضمن مخرجات الحوار الوطني للمجتمع المدني ولا تزال قائمة، وهي تمكين المجتمع المدني فعليا ثقافةً ومنهجا وممارسةً من خلال تقوية قدراته وتثمين عمله ودعمه ماديا ومعنويا وتوفير البيئة المناسبة لممارسة أدواره، فهو – أي المجتمع المدني – ركيزة أساسية في تطور المجتمع وتحضره ورقيه وليس مجرد تنظيمات صورية تحت الطلب لتأتيت المشهد، حتى إذا أخفقنا – لا قدر الله – نجد من نعلق عليه فشلنا ونصرخ: أين المجتمع المدني، أين الجمعيات؟