أخر المستجدات

الأكثر قراءة

الرئيسيةرآيالرومانسية في الأدب العربي

الرومانسية في الأدب العربي

ما أشد الاختلافات بين الشعر العربي اليوم وما كان عليه منذ 70 سنة ! لقد كان الشعر حينذاك يجتاز مرحلة الرومانطيقية بل إن الرومانطيقية قد ازدهرت وبلغت أوجها في العقد الثالث من القرن الماضي، إذ نشأت فيه جماعة أبولو ومجلة أبولو ونشرت فيه قصائد ودواوين لأبرز الشعراء الرومانطيقيين أمثال الدكتور أبو شادي وإبراهيم ناجي والهمشري وصالح جودت وعلى محمود طه وأبو شبكة وأبو ريشة والتجاني وغيرهم.

ولعل أبلغ صورة للشاعر عند الرومانطيقيين هي ما ورد في قصيدة ميلاد شاعر “لعلي محمود طه” ويبدأها هكذا :

لمحة من أشعة الـــروح حلـــت          ***     فـــــي تجاليـــد هيكل بشرى

ألهمت أصغريه من عالـم الحكــمة                ***     والنــــور كـــل معنى سرى

وحبته البيان ريـــــا من السحر           ***     به للعقـــــول أعــــذب رى

نحن هنا لسنا إزاء صانع أداته الكلمة ولا إزاء رجل هو لسان حال الجماعة كما هو شأن الشاعر التقليدي مثل شوقي، بل إزاء شخص تبوأ مكانة أسمى من مستوى الجماعة ويعتبر نفسه كائنا روحيا ساحرا ورائيا، وفيلسوفا. هذا المفهوم الجديد للشاعر تتضمنه قصائد نظمت في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي حول موضوع الشاعر وآلام الشاعر ومرثيات قالها أصحابها على قبور الشعراء. إلا أن الرومانطيقية سرعان ما تكونت لها تقاليدها الخاصة بها سواء في حصيلتها اللغوية أو في صورها الشعرية أو في مواقفها العاطفية. ففقدت بذلك حيويتها وصدقها ودخلها زيف وبالتالي قل ارتباطها بواقع العالم العربي بما فيه من مشكلات سياسية واجتماعية أليمة. وانتقدها الجيل الصاعد بحجة أنها شعر المراهقة والهروب إلى البرج العاجي وإلى عالم الجمال والأحلام الزائفة والإغراق في العواطف الرقيقة المائعة وتجنب الواقع الشائه. وطبعا كانت هناك عدة عوامل ساعدت في الثورة ضد التقاليد الرومانطيقية : منها انتشار الفكر الأجنبي بين الشباب من الشعراء والنقاد ورجال الفكر نتيجة للوضع السياسي والاقتصادي الذي زاد سوءا بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية. إذ ظهرت كتابات عمر فاخوري، ورئيف خوري وحسين مروة وأمين العالم. وعقب انتهاء الحرب نشر لويس عوض ديوانه “بلوطولاند” (1947) مصحوبا بمقدمة ينادي فيها بضرورة تحطيم بحور الشعر السائدة وكتابة شعر الشعب. ثم ظهرت مجلة ” الآداب” البيروتية تدعو إلى قضية الالتزام متأثرة في ذلك بكتابات الأديب الفرنسي الماركسي “جان بول سارتر” وهكذا تحول الشعراء، حتى الرومانطيقيون منهم عن عالم الجمال والحب إلى قضايا الشعب والالتزام، وغني عن الذكر أن مأساة فلسطين بنتائجها السياسية الكبرى المباشرة وغير المباشرة مثل سلسلة الثورات التي اجتاحت العالم العربي قد لعبت دورا كبيرا في هذا التحول.

ومن ناحية أخرى أخذ تأثير الشاعر الإنجليزي ” ت.س. اليوت ” يظهر في نتاج الشعراء الشبان، وكان لويس عوض من أوائل الذين عرفوا القارئ العربي باليوت في الأربعينات. ويبدو أثر اليوت واضحا ليس فقط في الأسلوب والشكل واستخدام الإشارة والأسطورة في الشعر العراقي والالشامي والمصري. بل إن هجوم اليوت على بعض الشعراء الرومانطقيين الإنجليز أثر بلا شك في موقف الشاعر العربي من التراث الرومانطيقي العربي. والواقع أن هذا الاهتمام الغريب باليوت عامة من قبل الشعراء العرب الشبان كان مظهرا من مظاهر اهتمامهم بالشعر الأوربي  والأجنبي عامة في ذلك الوقت وكان ضمن أولئك الذين لهم دراية كبرى بالشعر الغربي المعاصر الشعراء الرمزيون والسيرياليون الذين ارتبطت أسماؤهم بمجلة ” شعر ” البيروتية وقد لعبت هذه المجلة دورا كبيرا في الخمسينات في الثورة على الرومانطيقية وفي تشجيع الشعر الجديد. وكما هو معروف لم تقف ثورة الشعر الجديد عند رفض الموضوعات والأساليب الرومانطيقية وإنما حطمت البحور وأحلت محلها التفعيلة الواحدة واستغنت عن القافية أو كادت بل شاعت أيضا قصيدة النثر.

وإن نحن استبعدنا الاعتبارات الشكلية وجدنا أن الشعر الجديد يتفاوت في مدى رفضه للرومانطيقية. فبعض الشعراء في قرارة أنفسهم محافظون على الرغم من استخدامهم الأسلوب الجديد ومن هؤلاء مثلا نازك الملائكة. على حين أن البعض الآخر ولاسيما المتطرفين من شعراء مجلة ” شعر ” ومن بعدها مجلة ” مواقف ” البيروتية أيضا حاولوا القضاء على محليتهم وتقاليدهم العربية والانتماء إلى قضايا الشعر المعاصر في الغرب، مما أدى إلى تسميتهم بشعراء الرفض. وهؤلاء وقعوا تحت تأثير الشعر الرمزي السريالي الفرنسي وأصبحت لهم نظرية في الشعر ذات دلالات ميتافيزيقية وصوفية، وأدونيس واحد من الذين أخذوا بهذه النظرية مع الاحتفاظ بشيء من الاعتدال في موقفه من التراث. وأولئك الذين ظهر في نتاجهم تأثير الشعر الإنجليزي والأمريكي الحديث ولاسيما إليوت (مثل السياب والبياتي وخليل حاوي ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور) عمدوا إلى استخدام المونولوج الداخلي والإشارة إلى الأساطير والتراث الشعبي وغيره من مميزات أسلوب إليوت ولكن الأثر الفرنسي والأثر الإنجليزي ليسا منفصلين كل الانفصال وإنما تعلم كل من الفريقين شيئا من أسلوب الفريق الآخر. ولعل أهم ما تميز به الشعر الجديد هو تراكيبه وصوره الشعرية الخاصة والتي تقربه من الشعر الأوربي المعاصر. فالشاعر العربي المعاصر يتعمد تجنب أسلوب التقرير. لقد تعلم من الرومانطيقية كيف يستخدم اللغة بحيث يفجر ما فيها من إيحاءات. إلا أنه تعدى التجربة الرومانطيقية إذ يعمد إلى أسلوب ملتو يلمح أكثر مما يفصح ويقوم على الصورة كوسيلة للتعبير عن تجربته العاطفية، وهو في تفكيره عن طريق الصورة يتعدى أحيانا حدود المنطق والمعقول. ولعل عدم توفر العلاقات المنطقية أو الروابط الصريحة بين الكلام هو الذي يضفي على تراكيب هذا الشعر صفة الغموض التي نجدها في الشعر الأوربي المعاصر، ولاسيما الشعر الفرنسي.

ومن الأخطار التي تتهدد الشعر الجديد ولع الشعراء بالجدة أو الحداثة فقد أصبحت صفة الحداثة الآن تعني لديهم القيمة الفنية للشعر: وفي هذا مصدر قوة هذا الشعر وضعفه معا. فعلى الرغم من أن الشعر الجديد استطاع في أحيان كثيرة أن يوجد تراكيب لغوية في غاية الجرأة وأن يوسع من إمكانيات اللغة، إلا أن هذا الولع بالحداثة يعكس أحيانا شيئا من القلق وعدم الثقة بالنفس: فالمقصود بالحداثة هو في الواقع التشبه بالعالم المتحضر أي بالغرب. وشعراؤنا يتلهفون إلى تحقيق العالمية في شعرهم لدرجة تجعلهم يضحون أحيانا بروح اللغة العربية ذاتها.

أما مفهوم الشاعر الذي يظهر من خلال الشعر الجديد فهو مفهوم البطل والمنقذ والمخلص. لقد تحول مفهوم الشاعر من الصانع إلى لسان حال المجتمع على يد التقليديين في نهاية القرن قبل الماضي ومطلع القرن الماضي ثم تحول لسان حال المجتمع عند رواد الرومانطيقية إلى الرجل الحساس الذي هو فوق المجتمع ثم إلى النبي والرائي مع الرومانطيقيين دون أن يفقد لذلك سلبيته وقدرته على تحمل الألم. أما في المرحلة الراهنة للشعر العربي فقد استعاد الشاعر عضويته في المجتمع ولكن ليس في صورة لسان حال هذا المجتمع وإنما في صورة البطل الذي ينشد خلاص أمته عن طريق تحقيق خلاصه الفردي. فمن الملاحظ أن الكثيرين من هؤلاء الشعراء تشغل بالهم على نحو يكاد يكون مأساويا ضرورة إحياء الحضارة العربية والمجتمع العربي. وتظهر هذه الفكرة في عدة صور منها الفينيق عند أدونيس وحاوي والخال والسياب وجبرا وغيرهم. ويتصور الشاعر نفسه على أنه نوح أو المسيح أو سندباد. إنه لم يعد الشخص السلبي المتألم، ولكنه يقوم بعمل إيجابي بطولي ويضحي لذاته لكي ينقذ شعبه. وواضح ما حقيقة هذا العمل في سياق التفكير اليساري أو عند شعراء المقاومة الفلسطينيين. أما عند الرمزيين والسرياليين فالعمل الذي يقوم به الشاعر هو شعره ذاته فالشاعر عن طريق خلقه لغته هو وصوره واستعاراته الخاصة به إنما يصل إلى إدراك جديد للعالم ومن ثم فهو يحقق نظاما جديدا ويبدع عالما جديدا.

والله الموفق             

         24/10/2008 

إقرأ الخبر من مصدره

مقالات ذات صلة