أخر المستجدات

الأكثر قراءة

الرئيسيةرآيالحقيقة والأسطورة في قصة عنترة بن شداد

الحقيقة والأسطورة في قصة عنترة بن شداد

الصورة الروائية لحياة عنترة باهرة ومثيرة، كثيرة الشبه بأساطير، فلنأخذها على أنها واقع امتزج بالخيال، أو أسطورة تخللها واقع. فهي في كلتا الحالتين متعة أو مثال من المثل العليا للإنسان الأبي الذي استطاع بصلابته وشجاعته ونخوته أن يحطم القيد ويصون كرامته وكرامة قومه، وينتزع حقه المغتصب من بين فكي الأسد !

ظل الشك يخامر العقول فيما دس على عنترة من أشعار أضيفت إلى أشعاره فشككت في الصحيح وغير الصحيح وشككت أيضا فيما امتلأت به تلك القصة من مغامرات وحروب يستبعد أن يقوم بها فرد تضافر عليه الأقارب والأباعد، وأنكره أبوه لأن أمه أمة، فعامله معاملة السادة للعبيد وأبعده سواد جلده – قبل اعتراف أبيه بنسبه – عن زمرة السادة والأشراف وهو الجدير بالشرف والسيادة.

والذي نراه أن القدر الأكبر والأهم من وقائع تلك القصة متفق مع ما اشتهر العرب به من الشجاعة والكرم وحماية الجوار واقتحام الوغى، والذود عن شرف العشيرة ولا يتعارض مع ما لم يختلف عليه الرواة من أن عنترة كان فارسا مغوارا، وشاعرا مجيدا وعاشقا شريفا متفانيا، باذلا النفس قربانا لآماله العريضة.

نشأة عنترة في بيئة عربية قديمة صميمة لها مناقبها ومثالبها. ولابد أنه كان يمتاز في قومه وعشيرته بشخصية قائمة على شمائل شريفة استحق بها تلك الشهرة التاريخية الواسعة والباقية. وأبرز هذه الشمائل: الشعر والفروسية والحب، ومنها تألفت حياة عنترة وتألقت في سيرة رائعة ممتدة امتداد الزمان.

كانت أم عنترة أمة لشداد – كما تقدم – اسمها زبيبة لذلك ظل عنترة ينادي : يا عبد،  يا ابن زبيبة… ولم يصبر عنترة على ندائه بالعبد وهو الحر فانفجرت ثورته في أشعاره ومعاركه وحبه ولم يرض أن تكون خدمته لشداد خدمة العبد للسيد، وإنما كان يحس في أعماق نفسه أن شدادا أبوه، وليس عضا أو كرها. وكان عنترة يجد من سوء معاملة شداد له ما يحرم عليه اقتران اسمه باسم أبيه، بينما يبيح له اقتران اسمه باسم أمه زبيبة.

ومن عادات العرب الموروثة في الجاهلية بل من عيوبهم الشنيعة التي قضى عليها الإسلام أنهم كانوا يأنفون من نسبة ابن الأمة المستولدة إلى الأب الشرعي له، ولا يعتقون رقاب الأماء المستولدات.. ولكن عنترة بصرامته وجبروته وإصراره على انتزاع الحق بالقوة استطاع أن يولد من جديد وأن يحصل على شهادة ميلاد عنترة بن شداد العبسي، وشهادة تقدير لانتصاره على أعداء قومه، ذلك الانتصار الذي حفز أباه إلى الاعتراف بانتسابه إليه بل إلى الفخر بابن ذي شأن مرموق مشرف.

وإذا اعتمدنا على المراجع الخالية من الغلو الأسطوري رجح عندنا من الروايات التي رويت عن انتساب عنترة إلى أبيه شداد ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني، قال : ” كان سبب ادعاء أبي عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس، فأصابوا منهم واستاقوا إبلا، فتبعهم العبسيون فلحقوهم، فقاتلوا عما معهم وعنترة يومئذ منهم فقال له أبوه : كر يا عنترة، فقال : العبد لا يحسن الكر، وإنما يحسن الحلاب والصر، فقال له : كر وأنت حر، فكر وقاتل قتالا حسنا فادعاه أبوه بعد ذلك وألحقه بنسبه “. هذه رواية صاحب الأغاني.

وكان قلب عنترة قد خفق بحب عبلة بنت عمه عندما كانت زهرة تفتحت في بيت أبيها السيد المهيب مالك، ورآها عنترة أول ما رآها بعين العبد الذي لا تمتد يده إلى أكثر من زمام بعيرها ولا تمتد عينه إلى أكثر من استجلاء حسنها على مرأى من أعين الرقباء من أترابها وحراسها وأهلها. وهو بين لحظة وأخرى ينظر إلى السماء تارة وإلى يد عبلة تارة أخرى فيخيل إليه أن نجوم السماء أقرب منالا من يد عبلة لما وضعته التقاليد العربية الجامدة بينه وبين أمنيته من صعاب، لاسيما بعد أن اشتهر حبه لعبلة وذاع شعره فيها.ولكن ظل طول حياته ينظم الأشعار ويركب الأخطار ويشهد معامع القتال محاولا تحقيق أصعب الآمال. والروايات متضاربة عن زواج عنترة عبلة، والراجح أنه لم يتزوجها، وأنه قتل بيد وزر بن جابر النبهاني والملقب بالأسد الرهيص. وقد عاش عنترة إلى ما قبل الهجرة بنحو اثنتين وعشرين سنة ولم أعثر فيما قرأت على تاريخ ميلاد له ويقال إنه كان من المعمرين.

ويظهر أن الروايات التي زوجت عنترة عبلة مهدت لهذا الزواج بتشويق أسطوري أضاف إلى الصعاب التي ذللت ما هو أكثر صعوبة. فبعد أن حلت عقدة نسب عنترة إلى أبيه وبعد أن صار سواد لونه سؤددا وبعد أن أصبحت عبوديته حرية وتبدلت مهانته فخرا له ولقومه، جدت عقدة أخرى أصعب حلا فطلب مالك ألف ناقة بيضاء مهرا لابنته… ويمضي عنترة ضاربا في الأرض بعزيمة لا تعرف اليأس، ليعود بذلك المهر الباهظ والذي رآه قليلا من أجل الظفر بمحبوبته… وفي هذه المرحلة الطويلة من حياة عنترة كثير من التهويل والمغالاة.

وسواء أصح أن عنترة تزوج عبلة أم لم يتزوجها، فلا خلاف بين الرواة على أن عنترة لم يخضع للضيم، بل تمرد عليه، وحطم القيد، وانتصر لنفسه ولقومه من المغيرين والأعداء، فاستطاع بإصراره على الدفاع عن كرامة الإنسان أن يخلد اسمه في سجل الأحرار الصناديد الأبطال.

والله الموفق 26/10/2008

إقرأ الخبر من مصدره

مقالات ذات صلة