أخر المستجدات

الأكثر قراءة

الرئيسيةرآيالوطن أولا.. قبل ماذا؟

الوطن أولا.. قبل ماذا؟

للوطنية والمواطنة جذر لغوي واحد هو “و طـ ن”، والوطن في أبسط تعريفاته هو الحيز المكاني الذي ينتمي إليه الشخص دما أو مولدا أو نشأة، لكنّ بين المفهومين فرقا جوهريا من حيث المدلول؛ فالوطنية شعور فطري بالميل العاطفي نحو المكان الذي يشعر الفرد بالانتماء إليه، والمواطنة مفهوم قانوني يكتسي طابع الإلزام في إطار منظومة الحق والواجب أو العقد الاجتماعي.

في الوعي المجتمعي، وفي سياقنا التداولي، ذابت الفروق بين المفهومين وامتزج أحدهما بالآخر عبر استيهام نقيض موحد لهما هو مفهوم “الخيانة”، والخائن هو الفرد الذي لا تظهر عليه سمات الوطنية/المواطنة.

في ظل هذه الامتزاجات المفاهيمية برزت عبارة “الوطن أولا”؛ وهي محاولة امتحان لفلترة الوطنيين من اللاوطنين، ومؤدى العبارة/ الامتحان هو: من يضع الوطن أولا وطني، ومن يجادل في العبارة من باب الشك يرسب وينكشف. غير أن الامتحان السابق يُضمر معنى خفيا يتغياه السائل، وهو إضمار ينطوي على انصهار آخر بين مفهومَي الوطن والدولة، وقد انبنى هو ذاته على انصهار ثالث بين مفهومَي الدولة/السلطة.
لتكون المحصلة إذ ذاك: الوطن أولا والوطن هو الدولة والدولة هي السلطة، فالسلطة إذ ذاك أولا، والغاية النهائية من الامتحان: من يضع قرارات السلطة أولا وطني/مواطن، ومن يعارضها خائن/لاوطني.

للخروج من متاهة الانصهارات أعلاه، أطرح الفكرة بشكل مباشر: عبارة “الوطن أولا” هي محاولة لحشد الولاء اللامشروط للسلطة عبر استغلال عاطفة الوطنية وإلزامية المواطنة. غير أن العبارة مجردة وغير تامة، والسؤال البديهي الذي يتمم الجواب عنه المعنى هو: قبل ماذا؟ قد يأتي الجواب المتسرع بصيغة: قبل كل شيء! هذه العمومية لا تُخرج العبارة من حيز النقص، فكل شيء تضم: الوطن قبل السلطوية.. فتصير اللفظة التي أُنتجت ابتداء بهدف ترسيخ الولاء، عبارة مغرقة في المعارضة. وكل شيء تضم المسؤولين الفاسدين.. الوطن أولا قبل المفسدين، لذلك وجب تنقية الوطن منهم.

هذان الافتراضان -وغيرهما- لا يخطران ببال مطلقي العبارة، أو يتجهلانهما عمدا، لأن قصدهم الوحيد هو: الوطن أولا.. قبل كل ما يخالف توجهات السلطة/السلطوية.لنربط كل ما سبق بسياق استمرار العلاقات بين المغرب ودولة الإرهاب الإسرائيلية التي تشن حرب إبادة في غزة ولبنان. يواجه أنصار “الوطن أولا” كل مَطالب إسقاط التطبيع بحجة أولوية الحفاظ على “المكتسبات” التي تأتت من التوقيع الثلاثي بين المغرب وأمريكا ودولة الإرهاب الإسرائيلية، والذي اعترف من خلاله “ترامب” بمغربية الصحراء، يُكمل أنصار “الوطن أولا” حجتهم بالتأكيد على أن لدى السلطة الحق الكامل في عدم قطع علاقاتها مع دولة الإرهاب الإسرائيلية حفاظا على “المكتسب”، وأن من واجب الوطنيين والمواطنين أن يفضلوا المصلحة الوطنية على الواجب الديني والأخلاقي المتمثل في قطع العلاقات مع دولة الإرهاب.

لست هنا بصدد تقييم جدية “المكاسب” وجدوى الاتفاق الثلاثي قياسا على جدوى الانسحاب من منظمة “الاتحاد الأفريقي” ثم العودة إليها بعد 32 سنة رغم عدم انتفاء أسباب الانسحاب.

لكن، هل المواطن مُلزم بدعم قرار السلطة السياسي حتى إن تعارض مع “الحق الأخلاقي” البين؟ وهل تسقط عنه صفة الوطني وينزلق إلى حيز اللاوطنية/الخيانة إن عارض قاعدة: توجهات السلطة أولا؟

للجواب عن التساؤلين وجب تقديم توجيه يُفترض أن يكون بديهيا: الدولة هي نتاج تجمُّع عناصر ثلاثة: الأرض والشعب والمؤسسات، والسلطة هي جزء من العنصر الثالث (المؤسسات) وهي متغيرة لأنها تتشكل من آراء أفراد يدبرونها في فترة زمنية محدودة.

فالمواطن جزء من الوطن بحكم الانتماء الأولي، وجزء من الضلع الثاني في مثلث الدولة (الشعب)، وقد يكون جزءا من الضلع الثالث المؤسساتي، لكنه ليس جزءا من مكون آخر من مكوناته (السلطة)، فهو غير ملزم إذ ذاك بتبني كل توجهات أفراد يدبرونها (السلطة) في فترة زمنية مؤقتة.

ولنأخذ أمثلة جلية على هذا التباين المفترض من علاقات المواطن مع السلطة في دول غير المغرب: إذا فكرنا بمنطق الوطن أولا فإن من حق -بل من واجب- المواطن الأمريكي أن يدعم حرب الإبادة الجماعية في غزة، لأن هذا توجه دولته وليس أمامه خيار إلا تجسيد المبدأ “المقدس”: نيو جيرسي قبل غزة، فما من شك أن مصلحة أمريكا -سياسيا- هي الدفاع عن الأمن القومي الإسرائيلي، فإسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وتضررها أو انهيارها ضار بالوطن/الدولة/السلطة/أمريكا.. فتأسيسا على منطق: “الوطن أولا”، وجب دعم الحليف حتى إن كان ظالما أو إرهابيا.

وقس على ذلك حق وواجب المواطن الفرنسي والبريطاني والإيطالي والألماني: الوطن أولا ورأي السلطة أولا، وما دامت مصلحة الوطن/الدولة/السلطة متأتية من دعم حرب إسرائيل على غزة ولبنان، فإن الواجب دعم القرار الرسمي، والأفراد الذين يخرجون في مظاهرات تُدين الرأي الرسمي ناقصو وطنية وأعداء الإجماع الوطني.

وإن تجرأنا على ضرب مثال حساس أقرب إلى الفهم، جاز القول إن المواطن الجزائري، بالمفهوم المجرد للمواطن، من حقه بل من واجبه -وفق قاعدة الوطن أولا- أن يتبنى سياسة وطنه/دولته/سلطته في الشأن الخارجي، وسيجد إذ ذاك مبررا لعدّ المغرب/الدولة “عدوا ومستعمِرا وعميلا”. هذا ما يقتضيه واجب الوطنية أو “تجزائريت” قياسا على مصطلح “تمغرابيت” الذي يُقصد به المستوى “الأسمى” من الوطنية، إذا ما سلخناه عن كل إلزامات أخلاقية.. فمبرر من قبيل: “لا يجوز تأييد تقسيم أراضي بلد شقيق وجارٍ نتقاسم معه الدين والأصل والتاريخ”، يشبه مبرر: “لا يجوز استمرار علاقات التطبيع مع بلد يحتل أراضي بلد شقيق نتقاسم معه الدين والأصل والتاريخ”.

كلها مبررات أخلاقية، فإما أن نقبلها جميعا أو نرفضها جُملة، والواجب الديني والأخلاقي يقتضي وقف التطبيع مع الإرهابي المحتل ووقف دعم محاولات تقسيم البلدان الشقيقة.. فإسرائيل دولة إرهابية محتلة والصحراء جزء من تراب المغرب، ولا يمكن قبول هذا ورفض ذاك.

التفريق بين الالتباسات المغلفة بالعبارات المسيسة يوضح الرؤية ويجعل التمييز بين الأبيض والأسود والرمادي ممكنا: السلطة كائن سياسي متغير ومتأثر، متغير لأنه متشكل من أفراد قابلين للاستبدال، ومتأثر بالمناخ السياسي المحلي والدولي، والمواطن/الفرد كائن أخلاقي يناصر الفضيلة الأخلاقية والعقلية، ويمج الرذيلة دون إلزام بمرعاة مبرراتها الجيوستراتيجية، الفرد ينبغي أن يظل بوصلة تُرشد السياسي، لا كفا تصفق لقراراته الظرفية المتبدلة.. الفرد جزء من الشعب، والشعب يتغيا الخيرية ويدفع باتجاهها بوسائل الضغط المشروعة لإجبار المؤسسات على تحقيقها.

والوطن أولا.. نعم، قبل المصالح الشخصية للسلطويين والمتنفذين.. وقبل السياسات العاطفية التي تحقق الأغراض الذاتية للحاكمين وتضيع الفضيلة أو مقدرات الوطن..

فلا يجوز أن لا يتصدر الوطن إلا حين يتعلق الأمر بقتل الأبرياء وسحق الحقوق وسجن الصادحين.. فالوطنية ينبغي ويجب أن تظل مقيدة بالمرجعيات الدينية والأخلاقية.. فإن انفلتت منها صارت دينا جديدا أو إلهٰا بديلا.

إقرأ الخبر من مصدره

مقالات ذات صلة