دعونا ابتداء نحاول تحديد النطاق الذي سأتناول ضمنه حديثي ، إذ سأركز على التنظيمات ذات الذات الطابع السياسي التي تنتصب للمُرافعة نيابة عن جزء من المجتمع في إحدى قضايا الشأن العام.
ولتحديد ماهية هذه التنظيمات سأتوسل في ذلك بالظهير الضابط لحق تأسيس الجمعيات الذي يُستفاد من مادته الأولى أن الجمعية هي بمثابة اتفاق بموجبه يضع أشخاص متعددين أنشطتهم ومعلوماتهم على وجه الشركة والتعاون قصد تحقيق أهداف غير ربحية (ثقافية أو سياسية أو اجتماعية).
إن التعريف السابق يعطينا تمثلُّا أوليا حول بنية هذه الإطارات التي ينتظم داخلها الأفراد بحيث يسمحنا لنا بالقول إن فكرة التنظيم – ذو الطابع السياسي – تقوم على أساس تعاقدي بمقتضاه يتم إرساء القواعد الناظمة لتدافع الإرادات الرامية لصناعة القرار الجمعي وتصريف المواقف باسم عموم الأعضاء، ويتجسد ذلك العقد أو الاتفاق فيما يُعرف، تداولا، بالنظام الأساسي والذي يُفرز منه نظام داخلي مفصل لمُجمله.
لذلك تكون مع ما سلف ذكره الآلية الديمقراطية – وهي غير الثقافة الديمقراطية- مجرد وسيلة لتفعيل ماكينة التنظيم، والتي يجب أن تنضبط للشرعية القانونية/التعاقدية.
كيف ذلك وأساس السلطات والصلاحيات داخل التنظيم _ ذي الطابع السياسي- هي الشرعية الديمقراطية المُستمدة من عموم الأعضاء؟
للجواب على الإستشكال، لا بد من استحضار أهم خاصية في تلك التنظيمات ألا وهي التدافع/الصراع لتبوء مراكز القيادة وصناعة القرار الجمعي، وبالتالي فإنه بطبيعة الأمور سيلجأ كل عضو أو مجموعة من الأعضاء يتقاسمون نفس التصور إلى فرض هذا الأخير بكل الوسائل بما فيها تلك التي قد تتسم بنوع من العنف وبالتبع قد ينتج عنه إقصاء للطرف المقابل المفروض عليه ذلك التصور بالشرعية الديمقراطية.
هنا تبرز فائدة مبدأ القانونية لدى هذه التنظيمات. وتفصيل القول كونه مبدأ عام يقضي، من مُجمل ما يقضي به، الشرعية والمساواة أمام القانون؛ التي هي في حالتنا هذه الالتزامات التعاقدية المُضمنة في الأنظمة الأساسية والنظم الداخلية.
فمبدأ الشرعية يُلزم أجهزة التنظيم، التنفيذية منها والتقريرية، بالتقيد بمنطوق أنظمتها الأساسية عند ممارسة صلاحياتها وإصدار قراراتها؛ وبالتالي يصير كل عضو قادر على توقع مآل كل تصرف يُقدم عليه داخل التنظيم سوءا كان داخل الأجهزة القيادية أو خارجها.
أما مبدأ سيادة القانون فإنه يضع الأجهزة القيادية تحت حكم النظام الأساسي شأنها شأن باقي الأعضاء؛ بحيث لا يمكنها أن تتذرع بموجبات صيانة التنظيم لكي تُنسب لها وضعا استثنائيا عن باقي الأعضاء يُبرر لها اللجوء إلى ممارسات تتسم بالتعسف، إن لم نقل مخالفة القانون.
لذلك فإن مبدأ القانونية شرط لازم لصيانة الديمقراطية الداخلية لدى هذه التنظيمات لكونه – أي مبدأ القانونية- رادع وحامي للأقلية من تعسف الاغلبية بحيث يمنع هذه الأخيرة من اللجوء للإعدام/إقصاء التنظيمي ” الطرد مثلا ” في حق الأقلية التي يُترك لها الهامش العمل على تقوية موقعها داخل التنظيم وبالتبع محاولة التَّموقع في مركز القيادة عبر التداول في تحمل المسؤولية.
خلاصة القول إن كل تنظيم يرمي إلى تجديد نفسه في ظل هذه المرحلة التاريخية التي تتسم بالتغير السريع، يجب أن يتشبع أفراده بثقافة سيادة التعاقدات المُبرمة فيما بينهم مصدقا للقاعدة الفقهية “العقد شريعة المتعاقدين”، لكون هذه الأخيرة هي من تحمي الأفراد الذين يحملون تصورات تقدمية ومُخالفة، لتلك التي لدى من يوجدون في الأجهزة القيادية وذلك من الإقصاء والطرد.
وبالتالي يصير التنظيم مُستوعبا لفكر محافظ يبغي صيانة الإطار وضمان اسمراره الذي تُمثله الأجهزة القيادية، في مقابل فكر تقدمي نقدي يساهم في تجويدها وتقويمها.