تزخر السينما المصرية بالعديد من الأعمال التي عالجت موضوع المرض العقلي بطريقة سلسة وفي قالب ساخر لكنه يحمل من العمق والألم الشيء الكثير. ولعل أبرز تلك الأعمال فيلم «خلي بالك من عقلك» و«البيضة والحجر» و«آسف على الإزعاج». سلطت هذه الأفلام الضوء على الأطياف المتعددة للمرض العقلي والجذور المحددة له، كصدمات الطفولة وحالات الاعتداء الجنسي وعقدة التعلق. وبينت كذلك كيف تصنف المجتمعات الشرقية الأمراض النفسية والعقلية وإلى أي مدى ترخي التفسيرات الغيبية بظلالها على عقل مضطرب.
لقد لخص فيلم «البيضة والحجر» على وجه التحديد موقف المجتمعات المتخلفة في التعاطي مع الجنون والسحر والماورائيات كأدوات لتحليل النفس البشرية. إذا كنت مجنونا في هذه الرقعة الغريبة من العالم فأنت بالضرورة على تواصل سري مع عوالم شمهروش السفلية. فإلى أي مدى ساهمت المعتقدات الخاطئة والمؤذية في التعامل مع «التسطية» في تكريس أزمة العقل العربي وتفريخ ملايين الحمقى الهائمين على وجوههم من الخليج إلى «بن حمد»؟..
كيف يفسر بلد «سبعة رجال» أعراض السكيزوفرينيا؟ وكيف يعالج «بويا عمر» أسباب اضطراب ثنائي القطب؟ لماذا ارتبط الجنون في مخيلة البشر بقوى خارقة تتلبس روح الإنسان وتسيطر على عقله؟ وهل في هذا التصور البدائي شيء من الحقيقة الضائعة؟
وفي هذا السياق، تزخر الثقافة الشعبية المغربية بكم هائل من المصطلحات التي تلخص موقف المغاربة من المرض العقلي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد «المشير»، «المشعوط»، «المسكون»، «المخاوي» وغيرها الكثير من المصطلحات التي تحاول تفسير الحالة النفسية والعقلية للمريض. نلاحظ أن معظم هذه الأوصاف والتفسيرات تصب في اتجاه أن هناك كائنا غرائبيا حل في بدن المجنون وتملك شخصيته وسيطر على تصرفاته. ولعل هذا التفسير، ورغم أنه يظل بسيطا وساذجا إلى حد ما، يقترب في معناه من نظرية الاغتراب الإنساني لفرويد في ما يخص المرض العقلي.
لطالما تملكني الفضول للسفر داخل عقل رجل فقد عقله. ما الذي يدور في مخيلته ولماذا يفقد المجنون القدرة على التمييز بين الواقع والوهم؟ هل فعلا يشعر المجنون أنه أسير لهلوساته وأصواته الداخلية؟ أو أن الجنون هو حرية مطلقة يتحرر من خلالها الإنسان من سلطة العقل؟ ما الذي جعل، مثلا، سكان مدينة بني حمد يغضون الطرف عن التصرفات الهوجاء للسفاح المزعوم؟ هل ساهم مظهره «المتدين» في التساهل مع سلوكه العنيف؟ ألا يعتبر هذا الأمر في منتهى الخطورة؟ هل أصبحت اللحية والجلابة مبررا للتعاطف مع المجانين والحمقى؟ هل نغفر لأحد المجانين عربدته وصراخه وخطابه الشوفيني الخطير وهو يصف المغاربة بالحمير والميكروبات فقط لأنه يستند على عكاز التدين المناسباتي؟ لماذا يخشى المغاربة من تصرفيقة بوهالي فالزنقة، ولا يخشون ممن يروجون لخطابات الكراهية والانبطاح للبراني؟
إن ضبابية الموقف في التعامل مع الجنون كلف الإنسانية ثمنا باهظا.. حيث انساق ملايين البشر خلف رجل يعتقد بتفوق الإنسان الأبيض.. بينما طبل آخرون لرجل أحرق النساء والأطفال والرضع لمجرد انتمائهم لمذهب ديني مختلف. واحتفى آخرون برجل جلس في شرفة قصره عازفا الناي مستمتعا بمنظر روما المحترقة.. فلماذا تثور ثائرة نفس البشر حين يقوم مجنون من العامة بارتكاب جريمة قتل؟ هل تبرر الأيديولوجية الدينية والسياسية الجنون؟ ولماذا تم اتهام النساء على مر التاريخ بالحمق والهيستيريا؟ بينما أبطال جميع المجازر والكوارث التي حلت بكوكب الأرض كانوا ولا زالوا رجالا بشنبات؟
وعلى ذكر «جنون النساء» لا يمكن لنا أن نختم هذا المقال دون التذكير بالظلم والحيف الممنهج والمقصود الذي تعرضت له المرأة بسبب عمليات فيزيولوجية طبيعية جرت عليها قرونا من التحقير وسوء المعاملة. فإلى حدود منتصف القرن العشرين، كان يُساء فهم متلازمة ما قبل الحيض (PMS) وتصنف على أنها شكل من أشكال المرض العقلي. اعتبر المتخصصون في المجال الطبي، ومعظمهم من الذكور، الأعراض العاطفية والسلوكية مثل التهيج، وتقلبات المزاج والاكتئاب بمثابة علامات على عدم الاستقرار النفسي وليس دورة هرمونية طبيعية. وقد تأثر هذا التصور بالتحيزات الجنسية والفهم المحدود لعلم وظائف الأعضاء الأنثوية. في بعض الأحيان، يتم تشخيص النساء اللاتي يعانين من متلازمة ما قبل الحيض بالإصابة بالعصاب أو الهستيريا، وهو ما يعزز الصور النمطية حول عدم عقلانية الأنثى. مع مرور الوقت، ومع تقدم الأبحاث حول التقلبات الهرمونية، أصبح من المعترف به أن متلازمة ما قبل الحيض هي حالة فسيولوجية شرعية، وليست اضطرابا عقليا، على الرغم من أن الوصمة والمفاهيم الخاطئة لا تزال قائمة حتى اليوم.
يقال إن الحد الفاصل بين العبقرية والجنون عبارة عن خطوط تتلاشى باستمرار. فإذا توقفنا عند محطات تاريخية تم التعامل فيها بقسوة مع العديد من العباقرة والمبدعين، واتهامهم بالهرطقة والجنون والكفر.. نجد أن البشر لا يخشون من المجنون الهائم على وجهه في الأزقة والشوارع بقدر ما يخشون من «المجنون» الذي يمتد بصره خلف حجاب العقل ليبصر ويتفكر ويتدبر.