في السياسة دائماً هناك نوعان من الممارسة، الأولى تقوم بالفعل العمومي وتشتغل يومياً على حل المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي لا تنتهي.
وهذا هو عمل الدولة بكل مؤسساتها، والتي منها الحكومة أما الممارسة الثانية فهي التي تبنِي فِعلها السياسي عبر تقَفي هفوات الأولى وعبر ترصد ما لم يتم القيام به، وعبر تبخيس كل ما لم يُنجَز، وبلا شك هذا عمل كل فعاليات المعارضة، بدءً من التي تشتغل في المؤسسات وتعارض الفعل الحكومي، أو المعارضة الشاملة التي تعارض كل ما هو رسمي، أو بالأحرى لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب.
واليوم، في السياق السياسي المغربي، هناك نوع جديد من المعارضة، فهي ترى أنه إذا عجزت على كسب ثقة المواطنين عبر الحصيلة والأداء والعرض السياسي القوي، فما على سوى نشر خطاب الشك والتشكيك وبث سموم عدم الثقة في كل ما هو مؤسساتي.
كما أنه، وبغاية كسب أصوات انتخابية جديدة، فكا عليك سوى انتقاد السياسات العمومية، ولا تكلف نفسك الا اتهام الجميع بالفساد، ورفع شعار حميها حرميها، وان البلاد خزينة مفتوحة بلا حسيب ولا رقيب، ونهب المال أسهل من شرب حساء الخضر.
وطبعا، وبواسطة وسائل التواصل الاجتماعي سوف تجد الالاف المصادقين القابعين خلف هواتفهم النقالة والدين تفاك بهم الخطاب الشعبوي الذي يهزمهم بأرقام الملايير والملايين التي لا يعرفون لها سبيلا في العد.
13 مليار درهم، أي 1300 مليار ستنيم، أي ملايين الأوراق الزرقاء والقرفية، سطى عليها 18 فراقشي، من مال المغاربة في برنامج استيراد الاضاحي ودعم اللحوم الحمراء. هذه هي الاشاعة التي نشرها بعض السياسيون، جزء منهم في المعارضة، وجزء أخر موجود في الأغلبية على شكل الطابور الخامس، الذي فتنه شعار حكومة المونديال، وقال هذا هو توقيت لعب السياسة بتقنيات لاعب النرد.
ولكي تأخذ الوصفة كل بهارَاتها اللازمة قررت المعارضة البرلمانية تشكيل لجنة تقصِي الحقائق لإعطاء طابع الخطُورة القصوى للأمر، ومحاولة وضع الحكومة في حالة متهم صدر فيه حقه الحكم النهائي الذي لا استئناف له.
الدستور المغربي في الفصل 67 حدد شرط تشكيل لجنة تقصي الحقائق في مجلس النواب بإمضاء ثلث نواب الامة، بمعنى 132 نائب برلماني، بينما المعارضة بقدِّها وقدِيديها لا تتجاوز 99 نائب برلماني … وفي تاريخ البرلمان المغربي لم تشكل الا 5 لجان تقصي الحقائق.
الامر أشبه برجل أطلق دعوة لحفل عشاء لفائدة 100 شخص وهو يعرف أن بيته لن يحمل أكثر من 10 أشخاص.
إذن اللعبة واضحة هو دَرْ المزيد من رَذاذ العتمَة على الموضوع، وضَخ الكثير من السِحرية حولهُ لكي تترسخ فكرة سرقة 13 مليار درهم من طرف حَفنة من المحظوظين…
والحقيقة أن موضوع دعم استيراد الاضاحي حق أريد به باطل، ومجمل الدعم العمومي لا يتجاوز 500 مليون درهم مقسم على ستنين، وهو الرقم الرسمي المثبت من وزارة الفلاحة ومكتب الصرف، أي خمسين مليار ستنيم وفَرتها الدولة لمنع الارتفاع المهول والغير المتحكم فيه لأضاحي العيد.
إذن من أين جاءت باقي الملايير…؟
الحقيقة أنها افتراضية، روجت المعارضة ان الدولة كانت سوف تجنيها من الضرائب عبر عملية الاستيراد، وبالتالي قرار الاعفاء ضيّع على الدولة أكثر من 9 مليار درهم من الضريبة، وبالتالي هي الان في جيب الفراقشية …
وهذه كِذبة أخرى لأن هذا الاستحقاق الضريبي لن يكون أصلاً في خَزينة الدولة، لأنه كان مُجرد أجراء احترازي تقوم به الدولة لحماية القطيع الوطني من الاستيراد المفرط، وبالتالي هي ألغت رقم إفتراضي وليس حقيقة.
والعملية كلُها جاءت لان هناك حاجة إجتماعية فرضتها، وهي الارتفاع المُهول لأسعار اللحوم بسبب تداعيات الجفاف الُمزمن وتنَامي الطلَب على اللحوم الحمراء، والحكومة في إطار مسؤوليتها العمومية قامت بالمُتعين للتحكُم ما أمكن في الأسعار، الى جانب كل عمليات الدعم التي تعرفها بعض المواد الحساسة كالغاز والكهرباء الدقيق.
مع الأسف، في بلَد مثل المغرب لاتزال أمية مرض يصيب ثلث المجتمع، مع وجود 40 مليون له هاتف جوال مربوط بشبكة الانترنيت، فيكفي إطلاق كذب كثير ليتحول الى حقائق فايسبوكية تملأ الدنيا وتشغل الناس.
والطبقة السياسية بكل مكوناتها اغلبية ومعارضة هي طليعة المجتمع وهي صانع الرأي العام، وهي التي تقود الفعل العمومي، لذا فمسؤوليتها الأخلاقية تقتضي ممارسة السياسة بنبل وليس بترويج الأكاذيب والاراجيف.
ننتظر ان تكون المعارضة صادقة في طرحها وستقوم بتشكيل لجنة تقصي الحقائق كما روجت، وينطبق عليها العبارة الشهيرة في الدارجة المغربية الا قالها يقد بها.