أخر المستجدات

الأكثر قراءة

الرئيسيةرآيكيساري يكتب: “الشَّبِيبَة وْلَعْرُوسْ والجِّيلالي”

كيساري يكتب: “الشَّبِيبَة وْلَعْرُوسْ والجِّيلالي”

بلال كيساري آث الحاج

 

كعادتي كل مساء، لابد لي مِنْ جلسة في مقهى زَكْزَلْ” بمدينة العيون سيدي ملوك شرقَ المغرب، آخذُ مكاني بين رُوادِ المقهى الشعبيِّ المتواجدِ في واحدٍ مِن أقدم أحياء المدينة؛ حي النخلة..

 

في الغالب أجلسُ وحيداً، أكتبُ أو أقرأ، أو أرقُبُ رواحَ الناس إلى منازلِهم، مُحاولاً رصدَ حالِهِم مِنْ طريقةِ مَشيِهِم، أو مِن تعابير وُجُوهِهِم، أو حركاتِ أيديهِم حالَ تبادُلِهِمُ الحديثَ فيما بينَهُم، أتألمُ لحالِ البعض و أفرحُ لآخرين، و يحدثُ أن يأخذني الغضب تاراتٍ أخرى، لما أعايِنُهُ وأشاهدُه؛ فألعنَ الأسبابَ التي فَرَّخَتْ لنا واقعاً يتلظى الدَّرَاوِيشُ” بنيرانه، ويتعذبُون فيهِ عذاباتٍ بعضُها أنكى من بعض.. والدراويش هنا بالمعنى المُحيلِ على الهشاشة والفقر، أو بتعبيرِ أدق “الزَّلْط”.. لا بالمعنى المحيلِ على الدروشة الصوفية..

 

اخترتُ طاولتي المفضلة تحت شجرة الفُوكِيسْ” (Fikus) المحاذية لِزُقَاق مُتفرعٍ من شارع تافوغالت (طريق بركان كما تُسميه الساكنة المحلية).. ثم طلبتُ مِن النادِلْ كأسَ شايٍ مُنعنع..

 

ما هي إلا لحظات قليلة، حتى الْتَحَقَ بي صديقي “الجِّيلالي”، بعد التحية و(التْشَخْبِيرْ) يطلبُ قهوةً سوداء، فأبادِرُهُ بمزحة:

  • سِيدِي عبقادر الجيلالي (عبد القادر الجيلاني) كانْ عَايَشْ فَالنُّورْ، وانْتَ؟ عَايَشْ فَـ الظَّلام.. أقصدُ بذلك سوادَ القهوة..

 

يُجيبني بعد ابتسامةٍ صغيرة:

  • الله يكحَّلَكْ لِيَّامْ..

 

أنْفَجِرُ ضاحكاً:

  • راها كحلة أصلاً..

 

ينظرُ إلي بابتسامةٍ صفراء، ثم يقول:

  • تزيد تكحال..

 

ثم.. وقبل أن أرُد.. يُبادرُ بسؤالٍ لم أتوقعهُ:

  • هل شاهدتَ لقاءَ شبيبة “تَادْبِيرْت”؟
  • شاهدتُ مقطعاً قصيراً يَظهرُ فيه الحضورُ وهُمْ“زاهْيِينْ ناشْطِينْ”!! البعض على المنصة، والبقيةُ مِن على المدرجات..

 

  • ما رأيك؟

 

  • لَمْ أُعِرْ ذاكَ اهتماماً..ولا يحاجُ مني رأياً!!

 

  • لماذا؟

 

فهمتُ ما يَرمِي إليه.. وأردتُ أن أغلق الموضوع قبل أن يتشعب النقاشُ فيه، لأني بصددِ استراحتي المسائية، و لستُ بصدد جلسةِ تحليلٍ لحدث يُحسبُ على السياسة زوراً:

  • آ الجيلالي “إِيزَانْ.. أورْ اتَّكَنْ ثَامَمْتْ” (الذبابُ.. لا يُنتِجُ عسلاً!!)

 

تبسَّمَ.. ثم وجَّهَ نظرَهُ صوبَ طاولة كانت تبعد عنا بضعَ أمتار، كان يجلس إليها شابٌّ عشرينيٌّ يسكنُ بأحد الدواوير القريبة من المدينة.. ما أثارَ انتباهَ “الجيلالي” ليس الشاب، بل هو صوتُ أغنيةِ “إيفا فا ينوفا” للراحل إدير.. كان الشابّ الجالسُ وحيداً، يُطلقُ بهاتفِهِ سنفونيةَ إدير، و ما أنْ تصلَ إلى نهايتِها حتى يُعاودَ إطلاقَها مِن جديد..

 

يُعلِّقُ الجيلالي قائلاً:

يا سلامْ.. انظُرْ إليهْ.. إنَّهَا تأخذُ بتلابِيبِه.. إنَّهَا تشُدُّهُ شَدًّا.. هل تعرفُ يا بلال؟ بعضُ ما غنَّاهُ الرُّوادُ ليس مجردَ أغاني!! لا.. إنهُ التاريخ.. إنهُ الذات.. إنهُ رائحةُ حُضنِ الأرض.. وحُضن الأم.. وجناحُ الوالد.. لذلك، تجدُني في بعض الأوقاتِ، أغالبُ دموعي حين أسمعُ مقطوعاتٍ مِن ذاكَ الزمن.. آه يا بلال.. آه يا بلال..

 

يأخذُ كأس القهوة السوداء، يرتشفُ مِنهُ رشفةً لا تكادُ تُحسب، ثم يعودُ إلى صمتِهِ مُستمتعاً بأنغامِ إيفا فا ينوفا”..

 

أقطعُ ذاك الصمتَ بعبارةٍ عنيفة:

  • مَنْلَحْمَارَة لَلطَّيَّارَة كنتَ في موضوع شبيبة الأحرار، فجأةً طِرتَ إلى ثمانِينَاتِ القرن الماضي، “آفيق آ البريق” راحنا فْـ 2024..

 

كأنه يستفيقُ مِن حلم:

  • انت اللي ما بغيتش تعطيني رأيك!!

 

أجيبُه:

  • و ما فائدةُ الآراء؟أمامَ واقعٍ يهوي إلى القاع بسرعة “التجيفي!!

 

يسألني سؤالاً تهكُّمِيا:

  • ركبت فيه؟

 

  • ما كاينْشْ فـ الشرق.. التيجيفي كاين فـ المغرب المُنتفِعْ، هنا كاين المغرب غير المُنتَفِعْ.. آسيدي نديروا قضية.. عطيني رأيك انت وأنا مَن بعد..

 

يستجمعُ الجيلالي أنفاسَه، ثم ينظر إلي:

  • تُريدُ رأيي إذا.. مْرحبا.. لكن شكوكي تُخبرني أنكَ لن تُسمعني رأيَك!!

 

يُواصِل:

  • سي بلال.. المغاربة انتقدوا أجواءَ الرقص في لقاء شبيبة “تادْبِيرْت” واعتبروا ذلك أمراً لا يليق بمؤسسة سياسية وطنيةٍ، لاسيما في ظل أجواءٍ يُخيّمُ عليها الحزن، بسبب سقوطِ ضحايا في الفيضانات التي ضربت الجنوب الشرقي من المملكة، وفي ظل احتقانٍ خطيرٍ تشهدُهُ الأقاليم الشمالية المُطلة على البحر الأبيض المتوسط، وفي ظل معاناةِسكان منطقة الحوز التي أفجعَها الزلزال قبل عامٍ من تاريخِ اليوم، ومازالت شريحةٌ عريضة من ساكنة المنطقة بلا مساكنٍ تَقِيهِم قساوةَ العيش في أعالي الجبال..

 

  • في ظل هذه الأجواء؛ لا يليقُبمؤسسة سياسية وطنية أن تظهر مظهرَ الراقصِ على جراحِ الناس!! لاسيما في لقاءٍ وطني يجمع مُناضليها الشباب من مختلف ربوع الوطن، إذِ الأساسُ أن تُستَغلَّ الفرصةُ للتأطير السياسي لا للرقص.. فهذا الأخير له أمكنتهُ المخصصة، و له مناسباتُه..

 

يُضيف الجيلالي مُتسائلاً:

  • ثم هل يُعقل أن يتقبَّلَ المغاربةُ مِن مؤسسةٍ سياسيةٍ وطنية طُرُوحْ الشطيح و الرديح!! عوضاً عن الطروح السياسية المعالجةِ لمختلف القضايا؟؟

 

  • هل تعلم يا صديقي أن المغاربة يقولون عن العروس -اللِّي سَخَّرْ فِيها الله-:لعروس ما جات بالشطيح.. ما جات بالرديح.. جات غا بالسعد لمليح“..

 

  • إذا كان الشطريح و الرديح لا يُقبلُ معياراً حتى في اختيار العروسْ، هي التي لا تتأسَّسُ على قرارِ اختيارِها إلا أسرةٌ من أفرادٍ يُعدونَ على رؤوس الأصابع!! فهل يا تُراهُ قد صِرنا اليوم أمامَ واقعٍ سياسي جديد؟ يُشكِّلُ فيه الطَّرْحْ ديالْ الشطيح و الرديح أقصرَ الطرق إلى الترويجٍ للطرح السياسي لمؤسسة ما!!؟

 

  • ثم هل تغيرت قناعاتُ مؤسساتنا السياسية الوطنية؟ بحيث أضحت تؤمن بأن المغاربة غدوا لا يفهمون إلا لغةً واحدةً هي لغة (النشاط)!! لغة الشطيح والرديح!! لغة البندير والسنتير!! وأن الشطيح والرديح أمْسَى عندهم -أي المغاربة- مِعياراً يقيسون بهِ مصداقيةَ وشرعيةَالمؤسسات السياسية الوطنية!!؟

 

يُحجِمُ “الجيلالي” عن الكلام قليلا.. يبتسِمُ ابتسامتَهُ المعهودة، ثم يقولُ مواصل تحليلَه:

  • كنا نعرفُ المؤسسات السياسية الوطنية بفكرها السياسي، بعضها انقرض تقريباً لكن مورُوثَهَا السياسي باقٍ، تدرُسُهُوتستفيد منهُ أجيال.. أتساءل: ماذا سيُخلفُ هؤلاء وراءَهُم يومَ تغدو مؤسستُهُم السياسية جزءً من الماضي؟ على قول المغاربة: الشَّطَّاحَة تْمُوتْ ونَصْها كَايْلَوَّز 

 

  • ذاك هو رأيي فيما ما سيُخلفونَهُ إذا لم يُقوِّمُواْ سُلوكهُمْ السياسي، وإذا لم يعودوا إلى الأصل الذي هو احترام ذكاء المغاربة، واحترام شعور المغاربة وقت الأزمات..

 

ينظرُ إلي وتعابيرُ وجههِ تُخبرني بأنهُ يشكُّ في كوني سأفصِحُ لهُ عن رأيي.. ثم يسأل:

  • ما رأيك؟

 

عقبتُ قائلا:

  • ألا ترى أنكَتُبالغ؟

ربما كانت لحظةً عابرةً ليس إلا.. لحظةُ انتشاءٍ بتصدُّر مشهدٍ سياسي معطوبٍ أصلا!! نعم قد يكون الوقت غيرَ مناسبٍ لاعتبارات ذكرتَ بعضَها، لكن -عند البعض- يبقى للشباب حقهُ في (النَّشَاطْ/الشطيح) من داخل ملتقيات سياسية صِرفة!! ما دامت الأحزاب السياسية -وعلى رأسها الحزب الذي يرأس الحكومة- لا تُنتِجُ فعلا سياسياً حقيقيا، والطبيعةُ كما يُقال لا تقبل الفراغ.. غاب الفعل السياسي الحقيقي فحضر بدلا عنهُ (النشاط/الشطيح) السياسي، ولقد قلت لك سابقا “الذبابُ لا يُنتج عسلا”.. إذا ماذا ننتظر من أحزاب سياسية بلا مُنطلق سياسي حقيقي؟ بلا رؤية سياسية حقيقية؟ بلا مسار سياسي واضح؟ بلا حاضنة شعبية؟ أحزاب يعتبرُ أصحابُها الانتخاباتِ فرصةً للبحث عن (بريكول)!! أو لحماية (بريكولات)!! أو لكسب (بريكولات) جديدة!! هؤلاء طبيعي جدا أن يصدر منهم ما عينتَهُ وعاينَهُ المغاربة كلهم..

 

أذن المؤذن لصلاة العشاء..

وقف الجيلالي، ونادى على النادل، وقبل مجيء هذا الأخير، نظر إلي وقال :

  • عَنْدَك الحق: إيزَانْ أورتَّكَنْ ثَامَمْثْ.. أوهُو

 

أدى الجيلالي ثمن قهوتهِ ثم انطلق قافلا إلى سكناه..

 

غيرة الجيلالي على السياسة المغربية يُشاركُهُ فيها كثيرون في مختلف ربوع الوطن، لكن مشكلة “الجيلالي” وهؤلاء، أنهم يعيشون في زمن لم تعد فيه للسياسيين أنفسهم غيرةٌ على السياسة!! إذ أضحت هذه الأخيرة بلا شرف!! بلا قيمة!! بلا ذوق!! بلا معنى!! وأضحى المغاربةُ يجدُون في سلوك السياسيين الكثيرَ مِنَ النكران لقيمهم وتاريخهم وهويتهم وجهادِ أجدادِهِم ضد كل من تطاولت يدُهُ على الأمة والملة والوطن!!

 

مشكلة الغيورين على السياسة المغربية أمثال الجيلالي، أننا في زمن أتت فيه موجة التفاهة على كل المجالات التي قاعدتُها الفكرُ والثقافة، والسياسة ليست استثناء!! لذلك سيظلُّ “سي جيلالي” رهينَ الحسرةِ على ما آلت إليه السياسة الوطنية، ما دامت هذه الأخيرةُ رهينةَ نخبةٍ وافدةٍ على السياسية!! ومفروضةٍ عليها!!

 

إقرأ الخبر من مصدره

مقالات ذات صلة