أخر المستجدات

الأكثر قراءة

الرئيسيةرآيكيساري يكتب: بين الإبهار والإقناع!!

كيساري يكتب: بين الإبهار والإقناع!!

بعد مونديال قطر 2022، أطلقت فُوَّهَاتُ التأثير على صفحات التواصل الاجتماعي مصطلحاً جديداً!!، سُرعانَ ما تلقفتهُ فئاتٌ عريضة من المجتمع المغربي، حيث تداولَهُ المغاربةُ -تحت وطأةِ الحماسة- في مختلف تعبيراتهم عن إنجازات منتخب الكرة المغربية، بل إنَّ عديدَ المؤثرين والإعلاميين تجاوزوا استعمالَهُ في إنجازات كرة القدم الوطنية؛ إلى استعمالهِ في إبراز الإنجازات المغربية في مختلف القطاعات، كالتطور على مستوى البنى التحتية، والتقدم الحاصل في صناعة السيارات وصناعات أخرى، وغيرها مما يُعرضُ عادةً تحت عناوين “الأوراش الكبرى” و”مغرب العهد الجديد” و”التميز المغربي” وغير ذلك مِنْ عناوين الواجهة لا العمق!!

هذا المصطلح القديمُ من حيث اللغة، والجديد من حيث نوعيةِ الاستعمال، هو: لفظُ “الإبهار”..

الإبهارُ في قالبِهِ الشكليِّ الذي دَوَّخَ المغاربة قبل أن يُدوِّخَ غيرَهُم!! حيث جعلَ بعضَهُم في مرحلةٍ ما؛ يُروِّجون لواقعٍ مغربي أسطوريٍّ مُتوهم، لم يتلاشى إلا على وقع صدمات المآسي المتتاليات!! كمأساة زلزال الحوز، ومأساة فيضانات الجنوب الشرقي، وغيرها من المآسي التي فضحت هشاشة دعاية الواجهة!!

في المنتدى الوطني للمدرس، الذي أقيم يومَ السادس والعشرين من الشهر الفائت (26 شتنبر 2024)، كان الحضورُ الذي زادَ عن 3000 مدرس وإطار تربوي؛ على موعدٍ مع كلمة للفنان المغربي حسن الفد، وهي الكلمة التي كرَّرَ فيها هذا الأخير مصطلحَ “الإبهار” عشراتِ المرات!! حتى غدا حضورُ المصطلحِ أقوى من حضورِ شخصيةِ الفنان الشهير!! الإبهار.. مُبهر.. أبهرني.. أبهر…إلخ..

السؤال:

ما جدوى أن يتحول المغربُ إلى بلدٍ مُبهرٍ؟ والمغاربة وبخاصة فئة التدريس إلى مُبهرين؟
ثم.. هل المغربُ بحاجةٍ إلى أن يكون مُبهراً؟ وهل المغاربة وبخاصة فئة التدريس بحاجة إلى أن يكونوا مبهرين؟

أولا.. من المعروف والشائع في حياة الأمم والشعوب، أن للإبهار مداخلُ عدة، فقد يكون مدخلُهُ الفن كالكوميديا، وقد يكون مدخله الإغراء عبر الدعاية الإشهارية مثلا، وقد يكون مدخلُهُ الإغواء عبر لغة الجسد في السينما وفي غيرها!! وقد يكون مدخله ألعابُ الخفة والسحر!! إلى غير ذلك.. ولأن مداخلَهُ متعددة؛ فإن المبهرين يتنوعون حسب طبيعة تلك المداخل، لكن القاسمَ المشترك الذي يجمعهُم جميعا؛ هو أنهم يُقدمون للمتلقي شيئا غريباً عن العادة أو الفطرة أو حتى الإبداع الشائع، ما يجعلهُ -أي المتلقي- يدخلُ في حالٍ من الشَّدَهِ والاندهاش والإرباك، الذي قد يتحولُ إلى إعجاب، لكنهُ في الغالب يكونُ إعجاباً لحظيا ما يلبثُ أن يتلاشى مع انتهاء العرض!!

ثانيا.. الساعي وراء الإبهار أيًّا كان، مؤسسة أو دولة أو مجتمعا أو فردا، في الغالب يكون صاحبَ تأثيرٍ مُوَجَّهٍ للآخر أو للخارج!! وذاك التأثيرُ إنما الغرض منهُ إثباتُ الوجود بشيءٍ ما!! أيًّا كان ذلك الشيء!! ماديا أو معنويا، منتوجاً بسيطا أو مشروعاً كبيرا، قولا أو فعلا، المهم هو أن يُسهِمَ في ترميمِ شيءٍ اسمهُ الواجهة!! وأن يؤدي إلى الظهور مظهرَ الأفراد المميزين!! أو المؤسسات الناجحة!! أو المجتمعات الواعية!! أو الدول المتحضرة التي تعيش في بحبوحة الرقي والازدهار!!

لذلك.. نجد أن الدول العظمى -سواء في الحاضر أو الماضي- لم تكن تسعى ببرامجها وسياساتها لإبهار الغير، بقدر ما كانت -ومازالت- تسعى لتكون مُقنِعةً وناجعةً في مشاريعها التي ترومُ بناء العمق قبل الواجهة، والتوجه بالإقناع والنجاعة في البرامج التنموية للداخل قبل الخارج، لأن ترتيب الداخل أهم وأعظم من ترقيع الواجهة، ولأن الإبهار أمامَ الإقناع؛ كالفراغ أمام الكل، والمغاربة يقولون في نقدِ سياسة الواجهة: “آش خاصك آ لعريان، الخاتم آ مولاي!!”

انطلاقا مما سبق، نخلص إلى حقيقة مفادها، أنه لا جدوى من سياسات الإبهار، والجدوى -كل الجدوى- تكمنُ في الإقناع الذي يمتد من سياسةِ البرامج إلى سياسة التنفيذ، و من القول إلى الفعل، ومن التنظير إلى التطبيق، ومن التصور والطموح إلى الواقع والعمل..

في أحداث “الفنيدق” الأخيرة، وبعد أن عاين الجميعُ مشاهدَ موجٍ هادرٍ من الأطفال والمراهقين المندفعين نحو حدود المدينة المحتلة، لا لشيء؛ سوى للهروب نحو ضفةٍ انبهرَ بواقعها المغاربة كبارا وصغارا!! ألم يكن حريا بمؤسساتنا الوصية على أولئك الفتية المقهورين أن تطرح الأسئلةَ التالية:

لماذا وصل الحالُ بالمغاربةِ حَدَّ انبهارِ حتى أطفالهم بالواقع الأوربي؟ وإيثارهِم -أي الصغار- التواجد في القِفار استعداداً لهروب جماعي!! وهجرة سرية!! عوضاً عن التواجد في حضن الأسرة!! وفي حجرة الدرس في المدرسة!!

لماذا لم ينبهر أولئك الفتية بِــ (منجزاتنا الوطنية)؟ وعوضاٌ عن ذلك عَلَتْ أعيُنَهم غشاوةُ الانبهار بما عند الغير الأوربي؟؟ ولماذا لم يُبهِرهُم واقعُنا الذي يُصَوَّرُ في دعاية الواجهة بأنهُ وردي!! وأنهُ يُبهرُ العالم!!

صحيح أنه من أجل إجابة دقيقة على الأسئلة السالفة الذكر لابد من دراسات وأبحاث وتقارير متخصصة، لكن وفي انتظار ذلك سنقدمُ الإجابة التي يترددُ صداها في جوفِ أغلب أفراد الطبقة المسحوقة تحت وطأة الهشاشة، والإجابةُ هي كالآتي:

إن الواقع في الضفة الأخرى، أضحى يُقنعُ المغاربةَ قبل أن يُبهرَهُم.. يُقنعُهُم بما فيه من خدماتٍ تحفظ للإنسان قدرا محترما من الكرامة، ويُقنعُهم بما يُوفرهُ لهم من مساحة لإبراز قدراتهم في مختلف المجالات والقطاعات، وبما يوفرهُ لمبدعيهم من مؤسساتٍ ومشاريع حاضنة لإبداعاتهم..

إذا.. المغاربة يبحثون عمن يُقنعهُم لا مَن يُبهرُهُم ساعةً أو ساعتين، يوماً أو يومين ثم يرجعون إلى واقعهم البئيس!! يتلظون بنيرانه!! ويتقلبون في بحر تعاسته!!

جرت العادةُ في المغاربة -قديما وحديثا- أنهم لا يطالبون مسؤوليهم بالمستحيل، بل يقبلون بما يحفظ الكرامة الإنسانية حتى وإن قل، لكن ذلك القليل عندَهُم يجب أن يُبررَهُ ما يُصطلحُ عليه في عاميتِهم بـــ(المعقول) والمعقول هو ما يُقنعهم في لحظة الشدة كما لحظة الرخاء، لذاك وارتباطا بهذا تجدهم يُرددون دائما قولهُمُ المأثور: “امْعَمْشة وَلا امْغَمْضَة” أي أنهم يقبلون ويصبرون حتى وإن اشتدت وضاقت (امْعَمْشة)، لكن مع وجود مبررات مقنعة (وَلا امْغَمْضَة)..

في المغرب.. سواء تعلق الأمر بمؤسسات أو بأفراد أيًّا كانت مواقعهم، الكل مطالبٌ بأن يكون مقنعاً، الأستاذ مثلا؛ لا يمكن أن يكون في أعين طلبته نموذجاً يَحتذون به إذا لم يكن مُقنعا في الفصل وخارجهُ، في عرضه للدرس وطرحه لأفكاره.. في تواصله.. في انتصاره للثقافة والوعي.. في مناصرته للقضايا الإنسانية الخاصة بالوطن والأمة والعالم.. وأيُّ أستاذٍ يكون هذا حالُه، لابد أن يكون في المحصلة مقنعا لتلامذته.. نموذجا يحتذون به، وما يُقال عن الأستاذ يُقال بالتبع عن الطبيب والمهندس والأمني والمسؤول المنتخب والمسؤول المعين والحرفي، الكل مطالبٌ بالإقناع.. بل حتى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، كالجمعيات والأحزاب والمنظمات والحكومة والبرلمان والمجالس الجماعية.. الواجبُ الوطني يحتم عليهم جميعا أن يكونوا مقنعين..

في سياسات وبرامج الدول والمؤسسات، لا يمكن أن يجتمع الإقناع والغموض أو ما يصطلح عليه بالضبابية!! بل الإقناع يُنتج الوضوح، والوضوح -في القرارات والرؤى والخيارات والمواقف- يُنتج الثقة، ثقة الشعب في عمل المؤسسات، هذا كله يحصل بالإقناع لا بالإبهار..

وحتى وإن كان ولابد من الإبهار، فليكن الإقناع مدخلهُ الرئيس، وإلا كان ذلك الإبهار يدخل في خانة ما أضحى المغاربةُ يُوَصِّفُونَهُ بــــشُوفُــــونِـــــي!! لا غير!!

إقرأ الخبر من مصدره

مقالات ذات صلة