أخر المستجدات

الأكثر قراءة

الرئيسيةمجتمعمنذ الرومان.. مدينة تونسية تحافظ على فن الفسيفساء

منذ الرومان.. مدينة تونسية تحافظ على فن الفسيفساء

أثناء قطع المسافة بين المسرح الروماني في مدينة الجم بولاية المهدية شرق تونس وفضاء “دار الجم للثقافة والسياحة”، يخيل لك أنك تسمع ضجيج معارك ثورة قديمة.

هذه الثورة قام بها أهالي في مدينة توسيدريس (الجم حاليا)، في مارس/آذار 238 ميلادية، ضد زيادة الضرائب من جانب مفوض الإمبراطورية الرومانية.

وحين تلج بهو الفضاء الفسيح لدار الجم، وهو معرض وورشة، لا ينتبه لوجودك حرفيون منهمكون في تشكيل “ميكرو موزاييك” (فسيفساء دقيقة) لأشهر أعمال الفسيفساء الرومانية بتونس وأرقى لوحات الفنانين العالميين، مثل فان جوخ وبيكاسو ودافنتشي.

وينقسم المعرض إلى لوحات من الفسيفساء التاريخية المعروفة في تونس، ولوحات مثل غرنيكا لبيكاسو التي تعكس أهوال الحرب وما تسببه من معاناة، بالإضافة إلى بورتريه لفان جوغ.

عاصمة الفسيفساء
صاحب فضاء دار الجم رضا حفيظ قال للأناضول إن “مدينة الجم هي عاصمة الفسيفساء في تونس، وربما في إفريقيا أيضا، ومتحف الجم يضم لوحات من الفسيفساء الرومانية المعترف بأهميتها عالميا”.

وتابع: “في الجم كانت هناك 400 ورشة للفسيفساء، وفي كل حي من أحيائها كانت هناك ورشات”.

“ومن هناك كان الشغف بالفسيفساء، إلى أن سنحت الفرصة لبعث (إقامة) مشروع دار الجم، وهو مركب سياحي ثقافي يُروِّج للحرف الفنية وأهمها الفسيفساء، الموزاييك، والميكروموزاييك”، كما أضاف.

وحول استمرار الاهتمام بالفسيفساء في الجم منذ نحو ألفي عام، قال حفيظ إن “هذا إرث تاريخ في المدينة وتراث ثقافي مهم”.

وأردف: “توارثنا هذه الحرفة منذ العهد الروماني، ومنذ أن كانت تيسدروس (الجم حاليا) من أهم مدن الإمبراطورية الرومانية، وبالتالي تواصلت أجيالا وأجيالا إلى أن وصلت إلى جيلنا الذي طورها لتكون مواكبة للعصر”.

تناقص الحرفيين
وبخصوص الحرفيين في فن الفسيفساء، قال حفيظ إن “الجم كانت تزخر بعديد الحرفيين المختصين في الموزاييك وتجاوزنا 400 ورشة في المدينة”.

واستدرك: “لكن عدد الحرفيين تناقص كثيرا؛ نظرا للمشاكل المادية، خاصة بعد أزمة (كورونا)، ولعزوف الشباب عن تعلم الحرف اليدوية بشكل عام وليس الفسيفساء فقط”.

وأضاف: في “ورشة دار الجم أردنا أن نقدم أنواع الفسيفساء الموجودة والممكنة، والانطلاقة كانت مع الفسيفساء الرومانية، هذا الموروث التاريخي والحضاري الكبير جدا”.

وهذه العمل، كما أوضح، هو عبارة عن “إعادة نسخ اللوحات المعروضة في المتاحف التونسية والأجنبية، لنبين أن الحرفي التونسي اليوم قادر على إعادة نسخها بشكل جيد”.

فسيفساء دقيقة
في دار الجم، وفق حفيظ، “عملنا على الفسيفساء الفنية، أي مزج هذه التقنية مع لوحات أخرى لكبار الفنانين، ثم طورناها إلى “الميكرو فسيفساء” (الفسيفساء الدقيقة)”.

وأوضح أنه عبارة عن “استعمال مكعبات من الحجارة الصلبة والرخام لا يتجاوز سمكها 3 مليمتر، لإعادة تشكيل لوحات فنية عالمية لبيكاسو وفان جوخ ودافينشي وغيرهم من كبار الفنانين، بحرفية عالمية ومحاكاة مذهلة للأصل”.

وتابع: “عملنا على إعادة تشكيل عديد اللوحات القديمة بحسب طلب الحريف (العميل)، وخاصة لوحة فيرجيل (شاعر روماني 70 ق م – 19 ق.م)”.

وحسب حفيظ، فإن “هذه لوحات مرغوب فيها من قبل أصحاب النزل والمنازل الذين يريدون تزيين ديارهم بلوحات معروضة في متاحف تونس وتعبر عن الحياة اليومية وعن الألهة في العهد الروماني”.

وأردف: “نعمل على محاكاة كل ما هو معروض من الفسيفساء في متاحف (مدن) باردو وسوسة والجم وغيرها”.

وحول معروضات دار الجم من فسيفساء لأعمال فنية معاصرة وحديثة ومن عصر النهضة، قال حفيظ إن “تقنية الميكرو موزاييك تخول لنا العمل على عدة لوحات فنية عالمية”.

وشدد على أن “هذه اللوحات تتطلب دقة في العمل واستعمال أحجام ورخام صغيرة جدا، حتى تكون مطابقة للأعمال الفنانين. وأردنا كذلك أن نبيّن أن الحرفي في الجم قادر على الإبداع في هذه الحرفة”.

الخط العربي
ورغم النشأة الرومانية لفن الفسيفساء، إلا أن لوحات في دار الجم تتضمن الخط العربي ومعالم مهمة في تونس، مثل برج خديجة، وهو معلم أثري في مدينة الشابة بولاية المهدية يعود للفترة البيزنطية في القرن السابع.

كما تحتوي لوحة تزين رواق دار الجم على السقيفة الكحلة بمدينة المهدية، وهو معلم أثري يعود إلى الفترة الفاطمية في تونس.

وهو ما فسره حفيظ بقوله: “من أجل إرضاء الحريف يجب تنويع المنتوج، وهناك طلب على لوحات الخط العربي، وخاصة في الشرق العربي والشرق عموما”.

واستطرد: “كانت لنا مشاركات (بمعارض) في الإمارات وسلطنة عمان وإيران وأذربيجان ولمسنا اهتماما كبيرا من الحرفاء بالخط العربي والفسيفساء التي تمثل المعالم الإسلامية في المدن العربية، وقمنا بعدة أعمال في هذا السياق”.

أحلام الثورة
في دار الجم، توجد لوحة يطغى عليها اللون الرمادي وتتوسطها عبارة “ارحل” باللغة الفرنسية، في استدعاء لثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، التي أطاحت بالرئيس آنذاك زين العابدين بن علي (1987-2011).

وهذه اللوحة، حسب حفيظ، “تبرز الانتقال من حال إلى حال، وما شاب هذه المرحلة من مشاكل وأحلام كنا نتوقعها من الثورة التونسية”.

وأرجع استعمال اللون الرمادي إلى أنه “يوحي بخيبة الأمل واستلهام من لوحة غرنيكا لبيكاسو”.

وحول الاستلهام من قصر الجم التاريخي الواقع على بعد أمتار من دار الجم، أفاد حفيظ بوجود “مجموعة لوحات حول المسرح الروماني بالجم، وما كان يدور فيه من ألعاب وفرجة، مثل تلك التي جسدتها بطاقات بريدية تونسية قديمة للمسرح”.

جامعو التحف
و”منذ سنوات تراجعت المبيعات من الفسيفساء والإقبال عليها”، وفق حفيظ، الذي استدرك: لكن يبقى جامعو التحف الإيطاليون والفرنسيون والتونسيون هم أبرز الحرفاء”.

وتابع: “وكذلك أصحاب المنازل والنزل يقتنون بعض اللوحات. ما عدا ذلك تبقى الأمور صعبة نسبيا، فكما هو معلوم لوحات الفسيفساء أسعارها مرتفعة أكثر من اللوحات (العادية)”.

وبالنسبة لمستقبل الحرفة، أجاب: “نحن على يقين تام أن هذه الحرفة ستعيش لسنوات القادمة، وهي حرفة تستحق منا الاهتمام بها، وأتمنى أن تبقى الجم عاصمة للفسيفساء لا في تونس فقط بل في العالم”.

غرام بالحرفة
في فضاء دار الجم، تعمل فاتن ماني، وهي حرفية في الفسيفساء على تشكيل لوحة فسيفساء دقيقة.

وقالت ماني لمراسل الأناضول: “تعلمت في الأول العمل على الحجارة الكبيرة الحجم كأي حرفي، ثم تعلمت قطع الحجر العادي بالكماشة، ثم العمل على حجارة أصغر في حجم مليمتر واحد و2 مليمتر ونستعمل في قطعها مقص الأظافر”.

“أعمل الآن على لوحة موديس، وهي ترمز إلى شخصية أسطورية كان الرومان يعتقدون أنها تطرد الحظ السيء والنحس، ومعروضة في متحف سوسة”، كما بيّنت.

واعتبرت ماني أن “هذه الحرفية تتطلب غراما بها لتصل إلى إنتاج لوحة جيدة (…) وهي خدمة أيضا للحفاظ على التراث”.

و”هذه اللوحات الصغيرة عليها إقبال، والعمل الميكرو موزاييك لا يوجد إلا بمركب (ورشة ومعرض) دار الجم”، كما ختمت ماني.

إقرأ الخبر من مصدره

مقالات ذات صلة